ملخص السیاسات
بشكل أساسي یمکن الإدعاء بأن التقريب في المجال الديني هو نتيجة للتقريب في المجال السياسي، و ما لم يتم حل هذا الأمر، لا يمكن توقع نجاح کبیر لمشروع التقريب لأن التقريب الديني لم تكن له تجارب ناجحة في التاريخ من دون الإستعانة بالتقريب السياسي لذلك يجب أن نعتبر مشروع التقریب بمثابة مشروع الحكومات!
من ناحية أخرى، لا ينبغي متابعة التقريب كخطة أمرية و نظرية بحتة، بل یجب متابعتها کخطوة مؤسسة و إنضمامية لذلک يجب تأسیس الهياكل السياسية و الإقتصادية المقرِّبة و من ثم إحتواء التوترات في المجال الديني وفقا لذلك لیصبح مشروع التقریب ناجحا.
من ضمن أهم التحديات التي تواجه أطراف التقریب هي مسألة الثقة المتبادلة، و بما أن هذه الثقة لا تتحقق بسهولة في المجالات السياسية و الأمنية و الدينية، فمن المقترح أن نتخذ من التجارة و الإقتصاد نقطة انطلاق التقارب من أجل تشبیک المعیشة بين الطرفين. فقد أثبتت التجربة، أن تكاليف التوتر في مواجهة تهديد الحاجات الموضوعية و المادّية للأطراف أکثر ملموسة لدرجة تجعل من الممكن إحتواء التوتر بين الطرفين، فتجنب مناهج دفع النقود و محاولة بناء الترابط الاقتصادي بين الطرفين هو أحد أهم المتطلبات للإنتقال إلى أقصى درجات التقريب في المجالين السياسي و الديني.
1. تحدیات نظرية التقریب
في هذه الأيام و بعد مرور أكثر من سبعة عقود على إنشاء دارالتقريب و کذلک مرور أربعة عقود على قيام نظام الجمهورية الإسلامية، فإن جميع الباحثين و المحللين في مجال التقريب، بات لهم عدم کفاءة هذه النظرية أكثر وضوحا، بغض النظر عما إذا كان عدم الكفاءة هذا مرتبطا بطبيعة النظرية أو بنطاقها التنفيذي.
بالتأكيد، هناك العديد من السلبیات و التحديات التي تواجه هذه النظرية و الذي يعود جزء مهم منها إلى طبيعتها و نموذجها النظري حیث باختصار يمكننا تقسيم هذه السلبیات و التحديات إلى فئتين؛ الفئة النظرية و الفئة التنفیذية.
التحدي الأول : الإبهام في تعریف مصطلح التقریب
في المقام الأول، يبدو أن مصطلح التقريب، مثل العديد من المفردات و المفاهيم في مجال العلوم الإجتماعية، كان منذ البداية مصطلحا غامضا حیث لم يتم شرح معناه بوضوح. في الواقع حتى يومنا هذا، لم يشرح المنظرون المقصود من معنى التقريب بصورة واضحة! أو ماذا يعني التقريب بالضبط؟ هل هو بمعنى أن المبادئ الإعتقادية و الفقهية مثلا تصبح واحدة بين الطرفين؟ أو أن التقريب هو بمعنى الوحدة الفلسفية؛ أي ذوبان الطرفین في كيان ديني جديد؟ أم أن التقريب يعني التعاون و المساعدة؟ أو على الأقل معناه أن هذین الطائفتین تعيشان معا بدون صراعات و مشاكل و لا يتقاتل كل منهما مع الآخر، حتى عند فقدان التعاون بینهما! من الواضح أن مجرد عدم الشجار و التقاتل لا يتطلب أي تقریب، بل قد يتوصل الطرفان إلى تفاهم إجتماعي و سياسي دون أن تکون بینهما مودة أو حتى رغم وجود الإختلافات الحادة یمکن أن یتفقان علی عدم النزاع و التقاتل علی الأقل لفترة طويلة من الزمن.
بطبيعة الحال، فإن التقريب بمعنی حياة سلمية دون نزاع، هو أسهل بكثير و یتطلب آليات أبسط من التقريب بمعني التعاون و التقارب! و اليوم، على مستوى النظام الدولي و الأقاليم، هناك مجتمعات مختلفة لا تتقاتل مع بعضها على الرغم من خلافاتها الكثيرة، مع أنها لاتتمتع بتقريب فكري و لا عملي.
نتيجة لذلك يجب توضيح ما هو المقصود الدقیق من التقريب و ما ماذا نريد منه! فکل من هذه التعريفات لها متطلبات و آليات تنفيذية مختلفة و محددة؛ فأحدهما صعب للغاية و الآخر أسهل نسبيا!
يتم التأكيد على شفافية مفهوم التقريب وما يعنيه، لأنه بطبيعة الحال، عندما يتم تحديد الهدف و التعريف، يتم تحديد الآليات و درجة التسوية بين الجانبين، و هذا يؤدي بطبيعة الحال إلى تقلیص بعض المخاوف. على سبيل المثال إذا كان تعريف التقريب هو الإلتزام بتقليل الصراع و إحتواء التوترات بين أعضاء الطرفین، فإنه بطبيعة الحال لا يتطلب التخلي عن المبادئ، و هذا يمكنه أن يجمع أطيافا مختلفة من الجانبين معا في هذه العملية! و لكن إذا كان المعنى هو الوحدة بمعناها الفلسفي أو إنشاء مدرسة فكرية جديدة من خلال التخلي عن جزء من المبادئ التاريخية التي تعتبر غير القابلة للتغییر لكلا من الجانبين، فمن الطبيعي أن یؤدي إلی مجموعة واسعة من كلا الجانبين، و هذا سيمنع من تحقق التقريب!
فحینما نشاهد أن البعض في البيت الشيعي یعادون نظرية التقریب و الوحدة، فإن ذلك يرجع أساسا إلى إدراكهم للمفهوم و و فهمهم من المشروع التقريبي و هذا هو السبب في أنهم يسألون باستمرار “هل تريدونا أن نتسنن؟ ” هل تريدون إستحالة مذهبنا و عقیدتنا؟ !
و في المقابل یسأل بعض النخب السنية هل تريدوننا ان نتشيع؟! بطبيعة الحال من الممكن أن تسعى بعض الفئات إلى تنفيذ مشاريع أمنية سياسية و أن عداءهم لعقيدة التقريب ينبع من مصالح غیر إعتقادية و بطبيعة الحال لا نقصد هؤلاء بل نشیر إلى الفئات التي تؤمن بالعداوة الحقیقية مع هذا المشروع و تتعامل بصدق في عدائها له و مستعدة أن تضحي لمواجهته حیث تندرج الجماعات السلفية الجهادية و السلفیه المدخلیة او بعض التیارات الشیعیة ضمن هذه الفئات بحسب الکاتب.
نتيجة لذلك، لایزال التحدي الأكثر أهمية لنظرية التقريب على مدى العقود الماضية هو الإفتقار إلى الشفافية في تعریف مفهوم التقريب و في الواقع، هذا المفهوم هو نوع من المشترک اللفظي لمصادیق من النظریات و الآراء المتعددة!
من وجهة نظر المؤلف إن التقريب يعني التقارب أو التعاون الإستراتيجي، و لیس الوحدة بمعناها الديني الذي قد يكون متأصلا في أذهان البعض کما أنه لا يعني مجرد غياب الصراع بین الطرفین فحسب!
التحدي الثاني : متابعة مشروع التقریب عبر الجهات الدینية
من خلال الإنتقال من التحدي المفهومي، يعود التحدي الثاني لمشروع التقریب إلى الساحة التنفيذية. لأنه حتى لو تم توضيح مفهوم التقريب و معناه فإن المشكلة الكبرى التالية تتمثل في السعي وراء تحقیق مشروع التقريب من خلال القنوات و المؤسسات الدينية بصفته مشروع ديني فحسب و من أجل ذلک كل التجارب كانت على هذا النحو منذ عقود! فتجربة دارالتقريب في الأساس کانت خطوة من مشايخ الأزهر بمشارکة بعض الشخصيات الشيعية مثل الشيخ محمد تقي القمي (ره) و مشروع التقريب في الجمهورية الإسلامية الایرانية و على الرغم من دعمه من قبل النظام السياسي للبلاد، إلا أن متابعته عمليا تمت من خلال قناة المؤسسات الدینیة.
مع ذلك، لم تنجح المشاريع الدينية الكبرى التي تعود إلى مجال الهندسة الإجتماعية عبر التاريخ إلا من خلال قناة السياسة و بإرادة مؤسسة السلطة. قد يبدو هذا و كأنه ادعاء كبير و لكن إذا نظرنا من منظور علم الإجتماع للتاريخ و التجربة التاريخية للطوائف و الأديان (و بغض النظر عن كيفية تقديرنا لها من الناحية الإعتقادية أو الفلسفية) يمكننا أن ندعي بأنه لم يحدث تغییر واقع دینی کبیر دون المرور بقنوات السياسة حیث جميع التغييرات الدينية و الطائفية الكبرى حدثت من خلال القنوات السياسية.
نعم! قد نوافق أن نشأة الأديان أو المذاهب ربما لم يكن مرتبطا بشكل أساسي بالسياسة، على سبيل المثال یأتي شخص في مكان ما و یدعي أنه نبي ثم یرسى الأسس لمدرسة إيمانية و… و لكن بالتأكيد استقرار و بقاء ما أسسه ذلک الشخص و اکبر منها توسعة مدرسته الفکریة على المستوى الإقليمي أو الدولي یکون مرتبطا بشکل جذری بعنصر السياسة.
إن تجربة بقاء اليهودية و المسيحية و الإسلام و تطورها كلها مرتبطة بإرادة عنصر القوة و السياسة. قد یكون هذا زعما كبيرا و لكن قد لا يكون من الممكن العثور على تجربة في توسعة الدين خارج الساحة السياسية و في الأساس، ربما لهذا السبب، يمكن القول إن الأديان السماوية بطبيعتها لا يمكن أن تكون غير مرتبطة بالسياسة.
و في جمیع الأحوال، لطالما كانت إحدى المشاكل الكبرى، أنه في كثير من الملفات تمت متابعة القضايا المتعلقة بمجال الدين في قناة أخرى غير السياسة و طبعا هذا لا يعني إنكار ضرورة السمات الإعتقادية أو الفقهية للأديان بل إنها أمر ضروري و أساسي لبقاء و استقرار الشأن الديني المقدس! و لکن المشكلة هي أن الحركات و المشاریع الدينية الكلية المتعلقة بهندسة الحياة الإجتماعية للمجتمعات ليس لديها خيار سوى المرور عبر القناة السياسية لتحقيق النجاح و هكذا تثبت تجربة تاريخ الأديان هذا الإدعاء.
و بناءا على ما تقدم، يمکن أن نزعم بأن إغلب النزاعات في العالم الإسلامي و بشكل أساسي بین التیارات التقريبية و التیارات المناهضة للتقريب في العالم الإسلامي و غير الإسلامي كانت بسبب إرادة السلطات السیاسیة[i]. على سبيل المثال لایمکن نفي دور الخلافة العباسية في تطوير قوة المعتزلة و توسيع نطاق قبولها في مجال الحياة الإجتماعية! لأن دعم بعض الخلفاء مثل المأمون و حتی الواثق لعب دورا رئيسيا في بقاء و توسعة هذا التيار و من ناحية أخرى حینما عارض الخلفاء الأخرین مثل المتوكل و القادر للمعتزلة (و حتى قمعوهم بشدة) تم إنحسار نفوذ المعتزلة.
کذلک الخلافات في القرنين الرابع و الخامس الهجريين في بغداد بين الشيعة و السنة هي أكثر من أي شيء آخر، کانت نتیجة احتكاك إرادة البويهيين و الخليفة العباسي. فالخليفة کان يحرض أهل السنة بینما البويهيين کانوا يحرضون الشيعة لأن كلا الجانبين کانوا يرون قوتهم في التعبئة و الدعم الإجتماعي للجماهيرهم المذهبی و واضح أن لا يمكن القيام بالتعبئة إلا بإثارة المشاعر الدینية للجماهير. يمكن ذکر مثالٍ حول أثر أداء الدولة في نفس الفترة، فعندما قام عضد الدولة بترحيل والد السيد المرتضى (ره) إلى شيراز و عزل القاضي المتعصب الحنفي ابوعلی التنوخي عن منصبه من أجل تخفيف التوترات الدينية في بغداد. نتيجة لهذا التوازن حدث إنخفاض نسبي في التوترات بين الجانبین.
و بعدها، تأثر الصراع الشيعي-السني في الفترتين الصفوية و العثمانية بالسياسة و الصراع على السلطة لكن کل من الجانبین کانوا يحاولون تعبئة المشاعر الدینية و الإجتماعية في دعايتهم مقابل الطرف الآخر.
على أي حال، فإن الصراعات الشيعية-السنية في فترات مختلفة و مناطق جغرافية متعددة (من شمال إفريقيا إلى ماوراءالنهر) لم تشعل بشكل عام من خلال الخلافات الفقهية و الإعتقادية و قناة الدين بل عموما من خلال الصراعات السياسية و من خلال قناة السلطة.
کذلک في ما یخص المدرسة الوهابية، يمكن القول إن ما أدى إلى ظهور نظريات و معتقدات إبنتيمية و أسلافه و تحويلها إلى تيار إجتماعي واسع نسبيا فی الحجاز، لم تکن مجرد دعاية محمد بن عبد الوهاب الدينية دون إرتباطها بعنصر السلطة (أي آل سعود) فبدون الإرتباط المتبادل بین المذهب (ابن عبد الوهاب) و السياسة (آل سعود) ثم الاستخدام اللاحق لعائدات و ثروات آل سعود النفطية الهائلة، ربما لم تشهد المدرسة الوهابية مثل هذا التوسع في أي مكان في العالم.[ii]
و من ضمن الأمثلة الأكثر ملموسة على تطور الدين من خلال السياسة هي تجربة الثورة الإسلامية في إيران و الإنتصارات اللاحقة لحزب الله في لبنان ضد الکیان الإسرائيلي الغاصب، و التي من أدت إلى قفزة نوعية نحو التشيع في العالم الإسلام و غير الإسلامي من جانب بینما من جانب آخر کانت سببا في تنشیط واحدة من أكثر و أندر الموجات المعادية للشيعة انتشارا في العالم الإسلامي. لماذا؟! لأن هذا التغيير حدث في سياق السياسة و من قناة السیاسة!
من أحدث المصادیق على هذا الادعاء یمکن ذکر مستجدات ما بعد سقوط حزب البعث في العراق، حيث كان أساس الصراع الطائفي المنتشر في البلاد نتيجة التنافس السياسي على كعكة السلطة التي إمتدت إلى المجال الديني.
من الواضح أن الخلافات الکلامية و الفقهية بين القادة الدينيين للطرفين في العراق کانت موجودة منذ قرون، لكنها لم تكن قادرة بأي حال من الأحوال على الإنغماس في مجال العلاقات الإجتماعية و إشراك الجماهير في مجموعة واسعة من التطورات الاجتماعية و الدينية. فقد کانت تتابع هذه الإختلافات على مستوى النخبة أكثر منها على مستوى الجماهير! بل کان هذا من شأن النخب و لا من شأن الجماهير!
و یترتب على هذا المنطق أنه حتى في عهد صدام، الذي هو ذروة قمع الطائفة الشيعية کنا نرى علاقات الزواج بصورة واسعة بين أتباع المذهب السني و الشيعي. في الأساس حتى في هذه الفترة، لم يكن لمفهوم الشيعة و السنة أثر كبير، بل عرب العراق کانوا ینقسمون الى أبناء الشمال و أبناء الجنوب {بغض النظر عن إنتماءهم المذهبي}. فکان شاب من الموصل یتزوج بنتا من البصرة و الناصرية و الشاب من البصرة یتزوج بنت من تكريت و الأنبار! و حتی ربما تم تسجيل عشرات الآلاف من حالات الزواج بين إتباع المذاهب في العراق خلال هذه الفترة.
على العكس من ذلك، فإن الطائفية أنتعشت و تنشطت على نطاق واسع في المجتمع العراقي في وقت إختل فيه التوازن السياسي بطريقة جعلت حتی الجار أحيانا لا يرحم أفضل جاره القديم. و خير مثال على ذلك يمكن متابعته من 2005 إلى 2008 في أحياء بغداد المختلطة، مثل الدورة، الغزالية، الحسينية و المحمودية و ما إلى ذلك مما أدی إلى إنتشار التطهير المذهبي في تلک الأحیاء. في الوضع الجديد يمكن ملاحظة أنه حتى بعض قبائل محافظتي نينوى و الأنبار مثل الجبور و الدلیمیین الذين کانوا یقاتلون ضد قبائل تكريت في عهد صدام، دخلوا في صراع مذهبی ضد الشيعة الذين خرجوا عن العزلة و أصبحت لهم شراکة فی کعکعة السلطة علی البلاد.
نتیجة ذلک، یجب البحث عن السبب الرئيسي لميل أبناء الطائفتین إلى العنف المتبادل في مجال السياسة و فی التغيير السياسي و إرادة السياسيين و طریقة إدارتهم! و من هنا لم نسمع في هذه الفترة کثیرا من الخلافات الفقهية و الإعتقادية! فإذا حدث نقاش سيكون متأثرا بالمناقشات السياسية أکثر من تأثره بالمناقشات الدینية.
و باختصار، إن مدعانا هو أنه يجب متابعة أجواء التقريب قبل كل شيء في مجال إرادة الحكومات و من خلال قناة السياسة و من الواضح أن هذا لا يعني نفي النشاطات العقائدية و الفقهية التي تعتبر جزءا مهما من البنية التحتية النظرية و العقائدية للتقريب أو التقارب بین المذهبین بل هذا يعني أنه من أجل تحقيق التقریب و التقارب بين الشيعة و السنة على المستوى العام للحياة الإجتماعية يجب أن يتم الإستثمار الرئيسي في مجال السياسة و السلطة بل حتى الإجراءات و التدابير الأخرى (الثقافية و الدينية و غيرها) یجب أن تتم متابعتها من خلال قناة السياسة لأن الكفاءة و الإنتاجية في المجالين الديني و الثقافي، أقل بكثير من المجال السياسي أساسا، و مع فرض غياب الفاعل السياسي، ليس من الواضح هل أنها ستؤدی بشكل أساسي إلى نتيجة مهمة أم لا! و بطبيعة الحال، فإن المعارضة أو المواجهة و إحيانا حتى غياب مؤسسات السلطة، في مثل هذا المشروع يمكن أن تعني بالتأكيد نهايته و يمكن أن يؤدي اتباع القناة الدينية أو غير سياسية في النهاية إلى جذب أفراد أو مجموعات صغيرة الی مشروع التقریب فحسب.
على أي حال، یمکن القول أن النزاعات المذهبية و التقارب المحدود الذي حدثت عبر التاريخ کانت نتيجة لتدخل عنصر القوة و السياسة، و لم يكن هناك صراع ديني (على المستوى الاجتماعي العام) لو لم يكن العنصر السياسي و السلطوي دافعا له بشكل أساسي.
التحدي الثالث : متولي التقریب
التحدي الثالث الذي يمكن أن يؤخذ بعین الاعتبار في نظرية التقريب هو أنه أساسا من الذي يجب أن يكون مسؤولا عن مشروع التقريب؟! و في خطوة ما قبلها، أي جهة أو مجموعة يجب أن تكون منظّرة لهذا المشروع و الداعية له أو أي طائفة یجب أن تتبناه؟ حیث لطالما كانت إحدى العوائق الرئيسية لمشروع التقريب على مدى العقود الأربعة الماضية أن الأقلية أي الشیعة بشكل عام کانت رائدة للتقريب و هي أقلية لم يتم أخذها في الإعتبار في معادلات العالم الإسلامي حتى العقود الماضية القليلة، بل قبلها کانت یتم تکفیرها من قبل فصائل مختلفة من الأغلبية (السنة) أو یصفونها بالزندقة و أهل البدعة.
و لكي تكون القضية أكثر قابلية للفهم، يجب الإنتباه إلى المنطق الفكري و النفسي للعالم السني على مر التاريخ، فلطالما إعتبر أهل السنة أنفسهم أصل الإسلام و بسبب أغلبيتهم الكمية (عدديا) بالإضافة إلى هيمنتهم السياسية التي لا یمکن تقلیصها، فقد رأوا بشكل طبيعي و لا زالوا يرون أنفسهم الممثلين للإسلام الحقيقي و هذا هو المنطق و التصور التاريخي و التقليدي السائد بين النخب و ربما الجماهير السنية.
و مع وجود هذه الخلفية النفسانیة و هذه التجربة التاريخية، فمن الواضح أنهم سوف لن یوافقوا علی الإندراج تحت الراية التي ترفعها الأقلية الشیعية و خاصة مع ذلك الكم الهائل من الحساسيات و الشكوك في جوهر هذه الأقلية الإسلامية و طبيعتها! و نظرا إلى أن الأغلبية لا ترى نفسها في موقع الضعف أیضا بل تعتبر نفسها في موقع القوة فمن الطبيعي أنه في مثل هذا التعامل مع الأقلية، لا ترى الكثير من المزايا لنفسها. هذه العقلية ترسخت و لا تزال موجودة في وعي الأغلبية أو لاوعيها (لاشعورها) علی الأمد الطویل و من المفارقات أنها تعززت بالتوازي مع نمو و تقوية الأقلية الشيعية فی العقود الماضیه.
و نتيجة لذلك، فبسبب هذه الخلفية و التصور عن الطرف الآخر (الأقلية الشيعية) فإنه في أحسن الأحوال، حتى التيارات و النخب السنية الأكثر ثقافة و رحمة و صدقا، تعتبر جهود الجمهورية الإسلامية و الأقلية الشيعية نحو التقريب أو التقارب مؤشرا علی الضعف و جهودا منها للبقاء و إنقاذ نفسها في غياهب الأحداث أو حتى یمکنها أن تتصور أن هذا هو غطاء من أجل التوسع المذهبي الشیعي.
علی سبیل المثال دراسة وجهات نظر زعيم تقريبي مثل القرضاوي خلال العقد الماضي یبین هذا جيدا، فبسبب عدد قلیل من الأشخاص الذين إعتنقوا مذهب التشیع في شمال إفريقيا، يصر القرضاوي على أن الشيعة يتبعون نظرية التقریب من أجل التوسع و التبشير المذهبي[iii] و هذا فضلا عن الفئات التكفيرية التي لا تعتبر الشیعة مسلمین اصلاً بل تکفرهم و تفتي بهدر دماءهم، و بالتالي فإن القضية سالبة بانتفاء الموضوع و نتيجة لذلك من وجهة نظر الأغلبية، إما أن الشیعة لیسوا مسلمین (حسب الرأي السائد عند التکفیریین السُّنة) أو أنهم منحرفون و مخادعون!
و من المفارقات أنه بناءا علی هذا التصور، كلما حققت الأقلية {الشیعية} نجاحا (على سبيل المثال، إنتصار الثورة الإسلامية، هزيمة کیان إسرائيل في لبنان و فلسطين، التطورات الدفاعية الایرانية و نجاحاتها السياسية، إلخ)، یمکن مشاهدة تنامی العداء ضدها. لماذا؟ لأن السبب الأهم هو أن العقلية التاريخية و الخلفية النفسية لا تزالان تهيمنان على الأغلبية فإن في رأيها، الأقلية التي کانت مقموعة و محكوم عليها بالفشل دائما، بدأت تنتعش تدريجيا و تجرب مناخا قد تحتاج الأغلبية بحاجة إلى وقت طویل للإقتراب من حدوده و من ناحية أخرى تری الأغلبية باعتبارها الأغلبية التي کانت مسلطة دائما، نفسها الیوم في وضع مشتت للغاية و أنه لم يعد هناك نظام سياسي محدد و موحد (مثل النظام العثماني) يمكن أن يمثل العالم السني.
و في جمیع الأحوال، لا يمكن لأحد أن يكون متفائلا بمستقبل التقریب بين المذاهب الإسلامية ما لم ترى تيارات و فئات الأغلبية أن التقارب و التقریب بين المذهبین ضرورة ملحة للتعزیز الداخلي للعالم الإسلامي و صد التهديدات المشتركة.
قد تكون الجهود التي تتبع الیوم جديرة بالثناء، لكن ليس هناك ما يضمن نجاحها أيضا فطالما أن الأغلبية لا تشارك في العملية بنشاط و ليست في حد ذاتها رائدا للتقريب، سيكون هناك أمل ضئيل في نجاح حرکة التقريب.
التحدي الرابع: التقریب؛ أمري-نظري أم تأسیسي-إنضمامي
التحدي الرابع التي تواجهه تجربة التقريب في العقود الماضية، هو الطبيعة الأمرية[1] و النظرية[2] لهذه المشروع. لأن أولا تتم متابعة مشروع التقريب في عالم العقل بمثابة مشروع إنتزاعي مجرد لا علاقة له بالحياة الإجتماعية للمجتمعات الإسلامية. و بهذا المعنى يسعى القائمون علی مشروع التقريب إلى متابعته كـ تحول إجتماعي، (بصورة أمرية أو عبر الرجاء) في وعي الأفراد أو النخب، و من الواضح مدى إنخفاض معدل نجاح مثل هذا الأسلوب. فالمؤلف لا يدعي أنه لا توجد شؤون أمرية و آمرة في المجال الإجتماعي! کلا! بل الأساس في المجالات القانونية هي الأوامر و النواهي و طبيعتها السلطوية بینما تکون الحركات و التطورات التي لها موطئ قدم في المعتقدات و الأنظمة الإعتقادية عادة ما تدريجية و قائمة على بنية و هيكل إجتماعي، بل حتى لو كانت بحاجة إلى الصياغة بشكل قانوني و تنفيذی دون المرور بعملية اجتماعية فإنها لن تصبح مقبوله كقیم إجتماعية بدون الإقناع. و المثال علی ذلک هي مسألة الحجاب في حکم رضاخان و کذلک في زمن الجمهورية الإسلامية فكلاهما فشلا بصورة ذريعة لأن النظر إلیهما عموما ما كان بصورة أمرية و قهرية !
و مشروع التقريب من نفس النوع! فبدلا من إعطاء الأوامر أو تهییج الرغبات، يجب على القائمون علیه أن يتوصلوا إلى خطة فعالة و رؤية واضحة و خطة طريق ذكية یصبح ناتجها العودة في اتجاه واحد و مسار خال من العوائق نحو تحقق هدف التقريب!
في الواقع، يتطلب مشروع التقريب بالمعني العام، أكثر من أي شيء آخر، توفیر أرضية اجتماعية، و بالطبع، أولا و قبل كل شيء يجب الفکر في توفير البنية التحتية له ثم عندما يتم توفيرها، سیضطر الأطراف علی التحرك نحوه حتی لو لم يرغبوا في ذلك. و هذا هو ما فسرته على أنه تقريب بنيوي مقابل التقريب الإقناعي و الشخصي عبر أسلوب بصورة الترغیب و الاقناع کل فردٍ وجها لوجه.
ما تمت متابعته حتی الآن هو نموذج التقريب الإقناعي و بناءا علیه يجب أن یهرع القائم علی هذا المشروع نحو كل فرد و کل نخبة في المجتمع و اللقاء بهم لإقناعهم بأن التقريب أمر مرغوب فيه. بطبيعة الحال، يؤدي هذا الإجراء إلى إهدار كبير لموارد و قدرات رائد المشروع. يجب أن يسعى القائم علی التقريب إلى نوع من الهيكلة للتقريب و تحويلها إلى نظرة عالمية ثم في الممارسة العملية یحولها إلى نمط حياة سياسي و اجتماعي. و السؤال هو، ما هو مقدار الطاقة و القوة الموجودة فعلیا التي يمكن استخدامها لإقناع الجميع عبر اللقاءات؟!
التحدي الخامس : التقریب ذیل نموذج الدولة القومية
التحدي الخامس الذي يمكن أخذه بعین الإعتبار هو التقريب في ظل الدول القومية الحديثة! بالطبع، هذه في حد ذاتها ليست مشكلة غير قابلة للحل و بالطبع لا تتعلق بطبيعة المشروع (إذا قبلنا أن العلمانية ليست متأصلة في الدول القومية)، و لكن الحقيقة هي أنه بسبب عدم تجانس هذا النموذج السياسي مع التجربة التاريخية للدول الإسلامية یمثل هذا الأمرعائقا لها. بطبيعة الحال، فإن فرض النموذج الحديث للدولة القومية على الناس الذين عاشوا في ظل أنظمة مختلفة حتى يوم أمس ترك آثاره و تأثيراته على الرؤى و الدوافع الحيوية للمجتمعات الإسلامية.
الواقع هو أن التقریب و التقارب في إطار الدولة القومية الحالية ممكن أيضا في العالم الإسلامي، لكن لا یمکن تحقيقه بصورة أكثر اكتمالا و بصورة صحیحة إلا في شکل من أشکال الأمة الإسلامیة؛ مثلما يمكننا الیوم اعتبار الإتحاد الأوروبي اليوم تجسيدا للأمة الأوروبية.
ترتبط هذه المشكلة بطريقة ما بنفس التقريب الهيكلي فنحن بحاجة إلى هيكل سياسي جديد يتم من خلاله وضع توجهات تقريبية لإن الأنماط القومية الحالية (قومية وطنیة أوعرقية) تستهلک الكثير من الطاقة التي يجب إنفاقها للوصول إلى نقطة التقارب النهائية مما يترك لنا القليل من فرص الإنتاج.
التحدي السادس : التقریب من أي فئة؟ العلمانیین أم الإسلامیین؟
التحدي السادس الذي يمكن أخذه في الإعتبار، هو الإستثمار بشكل عام على الشخصیات المنسوبة إلى ما يسمى بالتيار المعتدل و الوسطی و السؤال هو لماذا الإستثمار علی شخصیات هذا التیار؟ لأن التقارب معهم أبسط و أسهل و أقل تكلفة، مع أننا إذا تابعنا عن كثب، نفهم أنه يجب أن يكون الإستثمار الرئيسي أولا و قبل كل شيء على الفئات الإسلامية الحادة من أهل السنة من أجل تحقيق النتائج في هذا مشروع، فمن الواضح أنه ما لم يتم إقناع هذه الفئات و دمجها في المشروع، فمن غير المرجح أن يتم إكمال مشروع متکامل مع الفئات الوسطیة. في مثل هذه الحالة، من المحتمل أن تبذل الفئة الأولى قصارى جهدها لتعطيل مشروع التقريب و تحريض الجماهير ضده! فنموذج القاعدة في العراق يؤكد هذا الادعاء! و الحقيقة أنه مهما نشأ التوتر السياسي في عراق ما بعد البعث لم یکن لیصل إلى هذه الدرجة من الحدة التي رأيناها لو لا دور القاعدة! و من أجل فهم التأثير السلبي لهذه الفئات الإسلامية على مشروع التقریب، يجب أن نأخذ في الأعتبار حقيقة أن جزءا كبيرا من القوة البشرية للقاعدة في العراق كانت تتكون من الشباب الذين تعایشوا مع جيرانهم الشيعة لسنوات و حتى كان لديهم الزيجات في عائلاتهم.
و نتيجة لذلك، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من صعوبة التقریب و التقارب مع هذه الفئة، إلا أنها على أي حال لديها قدرة عالية جدا على تعطيل مشروع التقریب بين الأقلية الشيعية و الفئات السنية المعتدلة خاصة من خلال الإعتماد على إثارة المشاعر المذهبية!
يمكن القول بإمتناع التقارب الإستراتيجي مع هذه الفئة! و هذا صحيح إلى حد كبير إذا ذکرناه من وجهة نظر إجتماعية للتاريخ، لكنه قابل للنقاش إذا تم اقتراحه من وجهة نظر فلسفية عند الحدیث عن إمتناعه الذاتي أو الوقوعي حتی في المستقبل، حیث هذا الإدعاء صحيح إلى حد ما لأنه ليس لدينا حاليا أي تجربة مشتركة ناجحة مع هذه الفئه فی مجال التقریب. و بصرف النظر عن تجربة التقارب بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية و حركة حماس الإسلامية في فلسطين، مع أنه یمکن الزعم بأن عدم وجود بديل داعم هو الذي لعب دورا رئيسيا في إقتراب حماس من الجمهورية الإسلامية الشيعية، و لکن من جانب آخر، هذا الإدعاء خاطئ، لأنه يبدو أنه لم يتم إتباع النهج التقریبي من خلال المسیر الصحیح فجميع التجارب بين الطرفين تم متابعتها بشكل رئيسي من خلال قناة المذهب و من نقطة انطلاق خاطئة.
يدعي المقال الحالي أن التقریب و التقارب المستمر و الهادف بين الطرفين مستحیل إلا من خلال تلاقي الفئات الدينية و الإسلاموية للطرفین! بالطبع، الوصول إلى مثل هذا التفاهم مع مثل هذه الطبقة هو الأكثر صعوبة و بطبيعة الحال يستغرق وقتا أطول مما یطلبه الوصول للتفاهم مع الفئات السنية العلمانية و غير إسلاموية، بینما إذا تم الوصول إلي هذا التفاهم فسيكون أكثر فائدة و إستمرارية. صحيح أن تحقق التقارب مع الفئات المعتدلة أو حتى العلمانية قد يكون أسهل و أسرع، لكن من الواضح أنه يمكن تعطيله بسهولة من قبل الفئة المذهبية الأخری. على سبيل المثال، تأثرت بشكل كبير العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع الجماعات السنية المعتدلة في ظل دور التیارات الاسلامیة فی دول مثل سوريا و العراق و لبنان!
2. التقریب و تحدي الثقة المتبادلة
بمجرد قبول أن التقريب هو من شؤون الناشط سياسي، بعده یجب اتخاذ خطوة أخرى و هي قبول أن منطق العلاقات بين الحكومات أو ما نفسره اليوم على أنها دول قومية[3] (بغض النظر عما إذا اعتبرناها شرعية أو کفوء أو لا) مبني على أساس عدم الثقة المتبادلة. في هذا المقال لا نهدف إلی الحدیث بالكامل في السياق الواقعي لنظريات العلاقات الدولية، و لكن من الحقائق الواضحة أنه عبر التاريخ، طبيعة علاقات و تعاملات الدول و الحكومات مع بعضها کان و لازال مبني على منطق عدم الثقة و سوء الظن. و كان هذا في غاية الأهمية، لاسيما في المجالات الأمنية و السياسية الحساسة لأن هذه المجالات لا تزال تعتبر حريما للسلطات بمعنى أنه لا يُسمح لـ أی”الآخر” حتى بالإقتراب من حدود هذين المجالين ما لم يصل إلى مستوى معين من الثقة. [iv]
لذلك، كانت المهمة الرئيسية للحكومات و السلطات للتقدم في عملية التقارب مع الآخرين دائما تتمحور حول ديناميكية بناء الثقة. على سبيل المثال في العصور القديمة كانت واحدة من هذه الخطوات تتمثل في قضية الزواج المتبادل[v] بين قادة وحدتين سياسيتين.
ربما تكون هذه هي المشكلة الرئيسية في مشروع التقريب لأن التقريب هو شأن سياسي (وفي بعض الحالات ربما أمني) و الشأن السياسي لأي دولة یعتبر بمثابة شرفها و عرضها الخاص، و الشرط أساسي للإقتراب من هذا العرض و الشرف و الحریم هو “الثقة” بینما هناك بالطبع أسباب مختلفة لانعدام مثل هذه الثقة بدءا من المبادئ الإعتقادية و الفقهية مرورا بالتجارب التاريخية في عداوة الآخرین وصولا إلی منطق المنافسة السياسية و. ..
على أي حال، من أين یجب أن نبدأ من أجل تحقيق الثقة المتبادلة؟ و بعبارة أخرى ما هي نقطة الانطلاق؟ هناك رأي مفاده أنه يمكن استخدام الدبلوماسية الدينية لتحقيق هذا التقارب و بناء الثقة المتبادلة و هذا يعني أن المؤسسات الدينية تتفق فيما بينها و توقع عقودا اجتماعية و دينية مكتوبة لمنع الخلافات و الإنقسامات في الأمة الإسلامية و تراقب تنفيذها بالصورة الصحیحة!
هذا المقال دون الرغبة في إنكار فكرة الدبلوماسية الدينية يسأل عن مدی فاعلية هذه الدبلوماسية! هل هذه النظرية مقترحة كخطوة أولية في جهود التقارب بين الطرفین أم كخطوة ثانوية و لاحقة؟! هل هي حقا نقطة انطلاق أو من ضمن الخطوات التالیة؟ !
بالتأكيد، يمكن أن تكون هذه الفكرة مكملا جيدا و لكن التركيز عليها أو منحها الأولوية في لعب الأدوار لبناء الثقة المتبادلة و إنشاء نموذج متقارب فعال یعاني من نقاط ضعف واضحة. على سبيل المثال، عبر التاريخ لم تكن هناك مؤسسة دينية موحدة و مستقلة في أي من المذهبین.
علی سبیل المثال في الفترة اللاحقة و مع إنشاء مفهوم المرجعية الدينية ثم بعدها مع إنشاء نظام سياسي شيعي قائم على ولاية الفقيه في إيران بدات الموسسه الدینیة الشیعیة الی توحید القرار الدینی و لیکن فی نفس الوقت، لازالت هناک خلافات جدية بین بعض الجهات من الناحية النظرية و العملية (و أحيانا في إطار نظام المصالح) بل حتی أحيانا هناک عداوات واضحة. و الوضع أكثر تعقيدا في العالم السني حیث ما زالت إحدى المشكلات الرئيسية هناک هي قضية تعدد المراجع الدينية التي تخضع إما لإرادة السلطة السياسية مثل دارالفتوی بالمملكة العربية السعودية أو أنها شبهحکومية مثل الأزهر في مصر أو أنهم مغضوب علیهم في الأساس من المؤسسات السياسية السائدة مثل الجهاديين و السلفيين و کذلک الإخوان المسلمين في کثیر من البلاد!
في مثل هذا الوضع، مع من یمکن الدخول في “عقد” ديني و دبلوماسي ديني؟! و من یمکن له أن یضمن العملية؟! طبعا هذا النهج له بعض الفوائد و الثمار لكنه بالتأكيد لن يكون قادرا على جلب غالبية فئات و تيارات الطرفین.
بغض النظر عما سبق، فإن محتوى العقد ليس سلسلة من القواعد الإجتماعية الفنية أو الملموسة التي يمكن التحقق منها بسهولة و لا یمکن وضع آليات تنفيذية للتحكم فيها، و باختصار لایمکن ضمان الأداء الناجح لها لأنه من السهل يمكن انتهاك هذه الالتزامات بسبب طبيعتها المرنة و السائلة و الخفية دون أن ينسب ذلك إلى إهمال أو تقصير الطرف المتعهد في الالتزام أي أن الإثبات القانوني صعب للغاية.
و کذلک بغض النظر عن أن هذه المؤسسات الدينية، مع فرض مثل هذا الالتزام و الواجب على مواطنيها، فإنها تواجه مشكلة أكبر يمكن وصفها بأنها مواجهة المشاعر الدينية للمؤمنين و الخوف من فقدان شرعيتهم عند جماهير المؤمنين. فإذن ما هي الحوافز التي یمکنها أن تدفع المؤسسات الدينية إلى قبول الدخول في مثل هذه المعاهدات مع وجود خلفية مخاوفها من فقدان جماهيرها و ربما تمرد الجماهیر على شرعية و مرجعیة المؤسسة الدينية؟!
على أي حال، فإن هذه النظرية، مع كل براعتها، إذا كانت تريد أن تكون جوهر استراتيجية التقريب أو نقطة البداية له و تسویقه فهي تعاني من نقاط ضعف خطيرة فإن الإفتقار إلى مؤسسات مستقلة و مقبولة تماما من كلا الجانبين و الطبيعة المرنة و الناعمة للإلتزامات و أخيرا قلق المؤسسات الدينية من تمرد جماهير المؤمنين هي التحديات الرئيسية الثلاثة لهذه النظرية.
على أي حال یبقي السؤال الرئيسي و هو كيف يتم إنشاء هذه الثقة و إستمرارها حقا؟
إن الإعتقاد في هذا المقال هو أن الخطوة الأولى يجب أن تبدأ من المكان الذي تتجذر فيه التوترات و تشرب منه میاهها. بالطبع أدت العديد من المشاکل إلى عملية التباعد و التوترات بين الطرفين بدءا من الخلافات الإعتقادية و الفقهية إلى المجالات الأمنية و السياسية! لكن من المهم استهداف الأسباب الجذرية لهذا التباعد.
بالتأكيد يمكن أن تعمل المقاربات القانونية كجزء من خطوات الضمان و بناء الثقة و لكن المشكلة هي الخطوة التي تسبقها! فقبل کل شئ يحتاج الطرفان إلى أرضية مشتركة ليتمكنوا من إستثمارها لتثبیت هذه الاتفاقيات الحقوقية.
في هذه الدراسة، توصف هذه الأرضية الثابتة بأنها خلق الشعور ” بالحاجة المتبادلة” و یجب نجاح استمرارها على مدى فترة زمنية، أي على المدى المتوسط على الأقل لتظهر نفسها في شكل نموذج تجريبي ناجح و خلاف ذلك من الصعب للغاية أن یتم التوفیق بين المعتقدات الدينية في شكل أطراف حقوقية مرسومة بنجاح، لأن الطبیعة الدینامیکية للمعتقدات و تعدد الفاعلين الدينيين و. .. لا تسمح بذلک.
3. الإستغناء باعتباره الأرضية الرئیسية للتباعد
نعتقد فى هذا المقال أنه بغض النظر عن كل التحديات التاريخية، يجب البحث عن الجذور الرئيسية للمشاكل بين الطرفین في هيمنة حالة نفسية خاصة تسمى “الإستغناء”. يعتبر الإستغناء أو الشعور بالإستغناء من العناصر المهمة للغاية التي عادة ما يتم إهماله و لا یحظى باهتمام كبير في المناقشات المتعلقة بالتقريب، بینما الإستغناء أو الشعور به هو بالتحدید ما يمكن (و هو کذلک بشكل عام) أن يؤدي إلى خلق “دورة طغیان” في العلاقات بين الطرفین.
إستخلص مؤلف السطور الحالية العلاقة بين الإستغناء و الطغیان من الآيات السادسة و السابعة من سورة العلق (کلا إن الإنسان لیطغی أن رآه استغنی! [vi]) حیث یشير سياق الآيات الکریمة و حتى منطوقها إلى تلازم الإستغناء و الطغیان و من المثير للاهتمام أن هذا التلازم تم التأكيد عليه بثلاثة أسالیب؛ أولا بحرف إنَّ! ثانیا بحرف اللام و ثالثا بالجملة الإسمية! و جمیعها تفید التأکید و الحتمية [vii]! و بعبارة أخرى في هذه الحالة فإن الطغیان حتمي و مستمر طالما إستمر وجود السبب (الإستغناء أو الشعور بالإستغناء) و علیه فإن الأثر (دورة الطفیان) یمکنه أن یستمر بلا نهاية أیضا. النقطة التي يجب الإنتباه إلیها هي أن الآية الکریمة (أن رآه إستغنی) لا تعني أنه مستغن حقا، لكنها تقول أنه يعتبر نفسه مستغنيا بل یحصل له الوهم بالإستغناء! أو یمکن أن نقول بأنه الشعور بالإستغناء و ليس الإستغناء الحقيقي!
من الجدير بالذكر أن جميع المفسرين تقريبا في تفسير هاتين الآيتين قد ربطوهما بالعلاقة بين الإنسان و الرّب و لم یذکروهما بالنسبة إلى العلاقة بين البشر مع بعضهم البعض[viii]. و السؤال المهم جدا هل يمكن للإنسان أن يكون مستغنیا عن الخالق؟! الإنسان یفتقر في وجوده للخالق بل الإنسان هو نفس الحاجة الخالصة[ix]! و مع ذلك، في كثير من الحالات يعتبر نفسه مستغنیا عن الله (أن رآه إستغنی) و لذلک یطغي. نماذج قوم عاد، ثمود، نوح، لوط، شعيب، إلخ، شاهدة على هذا الطغیان!
هل یمکن التصور بأن مثل هذا المخلوق الذي يشعر بالإستغناء عن المصدر الرئيسي لنعمة وجوده، ماذا سيفعل في موقف يمكن أن يصبح فيه حقا مستغنیا عن إخوانه من البشر (على الأقل في أصل الوجود)؟! من الواضح أن هذا الطغیان في الدرجة الاولی و الأهم سیحدث في العلاقات الإنسانية بناء على قیاس الأولوية!
يعتقد المؤلف أنه إلى جانب فهم العلاقة بين الإنسان و ربه، يمكن استخلاص نموذج للعلاقات الإجتماعية و کذلک نموذج للسلطة من هاتين الآيتين! لأنه لا يوجد سبب لاحتكار دائرة الإستغناء و الطغیان علی العلاقة بين الإنسان و الرّب، بل أنها أقوى و أكثر واقعية في العلاقة بين البشر على أساس قیاس الأولوية؛ حیث من الواضح أن الشخص الذي يرى نفسه مستغنیا عن الإله الذي خلقه و هو یفتقر في وجوده له، فالأولى أنه يمكنه أن يرى نفسه مستغنیا عن من لیس له به حاجة وجودية. فمنطوق آية أن رآه استغنی، عام.
في الوقت نفسه، يؤكد مفهوم الآيتين من سورة العلق علی المعنی العمیق للحديث الشهير عن سيد الشهداء علیه السلام «الناس عبید الدنیا و الدین لعق علی السنتهم یحوطونه ما درَّت معایشهم فاذا محصوا بالبلاء قل الدیانون »[x] و هذا حدیث غریب و ذوعبرة.
يمكن اعتبار هذا الحدیث بمفرده معادلا لعدة وحدات دراسية في علم الإجتماع! لأنه رغم إحتوائه علی نموذج للحكم و للسلطة السیاسیة تم إهماله حتى الآن؛ بل لم يؤخذ في الإعتبار إلا بعده الروحي و الديني.
هناك ثلاث نقاط إجتماعية مهمة في هذا الحديث:
الناس عبيد الدنيا و الدین لعق علی ألسنتهم!
طالما لم يهدد مصدر رزقهم فهم مع الدين!
في أوقات التحدیات و تهدید رزقهم أو حیاتهم، یبقی عدد قليل من المتدينين!
یبدو أنه لا ينبغي تفسير عبيد الدنيا هنا على عدم ديانة الناس أو عدم إلتزامهم بالدین (أو في الواقع الغالبية منهم) بل التدين هو أمر مشكَّك به و له سطوح و درجات مختلفة. و لهذا يقول أن الناس يدورون حول الدين طالما لا يوجد خطر على دنیاهم و معيشتهم! لذا فهم متدينون إلى درجة ما! فإنهم يؤمنون بالدين لكن أغلبهم في موضع التعارض بين المصالح المادية و الدین، عموما ما یقدمون المصالح المادية علی الدین، باستثناء قلائل من المتدینین.
بالتالي، يجب تفسير عبيد الدنيا في هذا الحدیث على أنه يعني أن الأفراد (باستثناء تلك الأقلية التی تتمیز بکثرة التدیّن) يتصرفون بشكل غريزي في مقام العمل؛ بحیث يفضلون احتياجاتهم الغريزية الملموسة على احتياجاتهم الفطرية الحقيقية غير الملموسة. من ناحية أخرى، هناك من هم متدينون بوعي باطني و بالنتیجة في أسوأ الظروف وأصعب المواقف، يفضلون الآخرة على الدنیا و رغبات فطرتهم على الرغبات الغريزية التي لا تعد و لا تحصى.
تجاهل علماء الحدیث و المفسرون هذا الحدیث ببساطة و ليس لديهم وجهة نظر سوسيولوجية عنه على الإطلاق و لا يستمدون منه نموذجا للسلطة. هذا الحدیث بحد ذاته یمثل وحدات دراسیة في مجال العلوم السياسية و علم الإجتماع فمن منطوق و مفهوم هذه الرواية المهمة، يمكن أن نفهم أن اهتمام غالبية الناس هو كفاءة النظام السياسي و ليس الشرعية الإلهية له! لذلك يجب أن تكون الحكومة الدينية أكثر كفاءة في ممارساتها و تثبت فاعليتها سعيا منها لإثبات شرعيتها! لأنه في حال عدم الکفاءة (حتى لو حظت بدعم الأقلية) فإنها تفقد دعم الأغلبية! نتيجة لذلك يجب ألا يسمح النظام الديني للجماهير بالوصول إلى تحدي الاختيار بين البلاء و المعيشة.
بالنتیجة أن الحكومة الدينية و مع محاولتها لتعزیز القدرة الروحية و المعنوية للمؤمنين، يجب أن تسعى في نفس الوقت إلى الحد من خلق أرضیة الصراع العملي بين المصالح الدنيوية و الأخروية و یجب علیها أن تثبت جدارتها و لا ينبغي أن يقتصر النظام الديني على دعم الأقلية لأنه من الواضح أن الأقلية سوف یدعمون أي حكومة دينية في جمیع الظروف و بالتالي إن الأقلية تكفي لإحداث ثورة أو إنشاء الحکومة و لكن عندما يتم تأسیس نظام الحکم، يجب أن يكون التركيز الرئيسي للنظام الديني على الأغلبية الذين یختلفون عن الأقلية و بصورة عامة هم غیر مستعدين للتضحية أو على الأقل لديهم قدرة محدودة علی التحمل. نموذج الضحاک بن عبد الله في يوم عاشوراء هو خير مثال على تفضیل الغرائز على الفطرة! و هو مثال واضح علی قبول التضحية حتى مستوی معين و مُحدَّد.
و من خلال فهم هذه المضامین المطولة و فهم الطبيعة الغريزية للبشر في سلوكياتهم الفردية و الإجتماعية، تصبح أهمية المكونات و العوامل الملموسة مثل الإقتصاد و المصالح المادية للأفراد (حتى في المجتمع ديني) ملموسة بشکل أکبر.
على أي حال، فإن الإستغناء أو الشعور به هو جذر الطغیان بینما الحاجة و الأهم من ذلك الشعور بالحاجة (حتى في غياب الحاجة الحقيقية) هي أحد أهم العوامل في منع الطغیان و من خلال هذا التفسير يمكن اعتبار الحرکات الطغیانية التباعدية نوعا من الطغیان الناتج عن الشعور بعدم الحاجة.
بالطبع الطغیان أیضا له درجات تبدأ من الإحجام عن التعاون مع الآخر إلى المواجهة و الصراع المتبادل!
هناك الكثير من النقاش حول دورة الطغیان و کیفیة تشكيلها، و التي سیتم مناقشتها بإيجاز هنا.
تبدأ هذه الدورة، في أضعف صورها بالإستغناء أو الشعور به و تنتهي بتمهید الفعالیات العدائية، و هي تتكون من ستة مراحل! و لکنها في أقوي صورها تتکون من سبعة مراحل تؤدي إلى صدام مباشر بين الطرفين!
نقطة البداية لهذه الدورة في المقام الأول هو الإستغناء الحقيقي أو على الأقل الشعور به من الطرفین أو على الأقل من أحد الطرفين تجاه الآخر. إن تشكيل مثل هذا الوضع يكون إما بسبب عدم اكتمال الخطط السياسية و الأمنية و الاقتصادية و الجيوسياسية للطرفین تجاه بعضهما أو بسبب وجود بدائل تكميلية تقدم خيارات جديدة لتلبية إحتياجاتها المشتركة.
العملية المذكورة تلغي بشكل مباشر أسس الحاجة إلى التفاعل و التواصل و التفاهم المتبادل بين الطرفین و هذا يؤدي إلى زوال التعارف المتبادل المباشر و غير المباشر و المحاید. في هذا السياق، سوف تحل وسائل الإعلام و التعارف غیر المباشر محل المعرفة المباشرة ثم تتشكل تصورات خاطئة (بناءا علی المعطیات الإعلامية) و بالتالي سوف تبدأ مشاعرعدم الثقة المتبادلة بين الطرفين و التي بدورها يمكن أن تؤدي إلى سوءالظن و التشاؤم، و في مراحل أكثر حدة تنتهي بأعمال عدائية تجاه الطرف الآخر.
الرسم البیاني لدورة الطغیان (ستة مراحل)
4. الحاجة في مجال السیاسات العلیا أم السیاسات السفلی؟
مجرد وضوح أن جذور الطغیان و التوتر في العلاقات المتبادلة بين الطرفين تکمن في الإفتقار إلى الحاجة أو عدم الشعور بالحاجة المتبادلة، فقد حان الوقت لطرح السؤال الأساسي و هو أن تأسیس هذه الحاجة أو الشعور يجب أن یتحقق في أي مجال من مجالات الحياة البشرية لکي یستطیع منع خلق دورة الطغیان في العلاقات بينهما؟! في مجال واحد أو أكثر أم في جميع المجالات؟! و هل هناك علاقة أو أسبقية أو تأخير بين هذه المجالات؟! و هل هناك حد أدنى و ضروري؟!
من الواضح أن “الحاجة” مثل “الإستغناء” هي حقيقة مشككة ذو درجات! و لها مستويات مختلفة و بطبيعة الحال، كلما امتدت هذه الحاجة أو الشعور بها إلى المزيد من مجالات الحياة المتبادلة للطرفين، کلما أدت إلی إنخفاض درجة نشوء دورة الطغیان! على سبيل المثال، إذا شعر الطرفان بالحاجة الجادة لبعضهما في مجالات مختلفة مثل الدينية، الثقافية، الإقتصادية و الأمنية أو العسكرية و کذلک السياسية و الإجتماعية، فمن الواضح أنه من الصعب تخيل أن المتانة القوية للعلاقة یمکن کسرها!
مع ذلك، هذا لا يعني أن ربط الإحتياجات المتبادلة للأطراف في مجال واحد فقط لا يكفي لكسر سلسلة دورة الطغیان! بل الکاتب یعتقد بأن الحاجة في مجال واحد في الحياة البشرية على الأقل، لديه القدرة أيضا على منع خلق ديناميكيات و طغیانات بين الأطراف أو على أقل تقدير سيكون من الممكن تقييد نطاقه و إحتواء الضغوط المحتملة التي تنجم عنه.
و مع ذلك، فإننا ندعي بأن نقطة البداية لاكتشاف أو حتى خلق حاجة متبادلة بين الطرفين هي أهم من أي شيء آخر. بعبارة أخرى، فإن الأهم من حقيقة أن الطرفين يحتاجان إلى الطرف الآخر في عدة مجالات من الحياة الاجتماعية هي الساحة التي يحتاج الطرفان إلى الانطلاق منها! فهل ینطلقان من مجال الإعتقادیة أم السياسة أو الاقتصادیه و التجاریة و. ..
یمکن الإجابة عن هذا السؤال بشكل أفضل إذا نظرنا إلى التجارب البشرية عبر التاريخ خاصة في العقود القليلة الماضية. تشير الدراسات إلى أن الإتفاقات الأكثر نجاحا و اتساقا و الحرکات المتقاربة في تجارب الحياة البشرية هي التي إنطلقت من مجالات غير حساسة أو أدنى حساسية مثل الإقتصاد و التجارة! حیث يمكن إرجاع أحدث الأمثلة على ذلك إلى تجربة الإتحاد الأوروبي و كذلك تجربة رابطة دول جنوب شرق آسيا (أسيان) [4] اللتان نشأتا حول محور التجارة و الإقتصاد ثم توسعتا تدريجيا إلى مجالات سياسية و أمنية حساسة!
على الرغم من أنه في كلتا التجربتين، كانت المخاوف الأمنية من الأفكار الشيوعية قوية و ربما كان الأمن هو الدافع الرئيسي في البداية، إلا أن سر بقاء الإتحادیتین و حتى توسعهما حتى يومنا هذا هو نقطة الإنطلاق و الذي لم یکن إلا الانطلاق من مجال الاقتصاد و التجارة أو على الأقل إعطاء المعدل الأکبر لهذا المجال مقارنة بالمجالين الأمني و السياسي! و هذا يعني أن النشطاء السياسيين و الدينيين يمكن أن يكون لديهم هدف أمني أو سياسي أو حتى ديني و في نفس الوقت یمکنهم جعل الاقتصاد نقطة الإنطلاق من أجل تحققه.
من المتصور أنه لو كانت نقطة البداية هي مجالات الأمنی و السياسي و التركيز عليها لکانت قد تفككت هاتان الإتحادیتان اليوم أو لأصبحت مثل الإتحادیات السياسية و الأمنية الأخری التي لاتسمن و لاتغني من جوع.
نتيجة لذلك، يمكن القول بأن المجال الرئيسي الذي أوصلهم إلى النقطة الحالية هو البدء من المجال الاقتصادي و التركيز عليه قدر الإمكان في العقود الأولى.
بالطبع فإن المؤلف لا يدعي أن تجربة هذا الإتحاد يجب بالضرورة أن تستمر! کلا! بل يمكن للعديد من المتغيرات أن تسبب إنهيار الإتحاد في المستقبل! لأن تراجع العلة بطبیعة الحال سيؤدي إلى تراجع المعلول فهذا الإتحاد سيدوم مادامت جذوره باقية و أسباب إنهياره مفقودة!
من ناحية أخرى، لا یدعي هذا المقال بأن نجاح الاتحاد الأوروبي كان بسبب نقطة إنطلاقه فحسب، کلا! بل كان لنجاح الأوروبيين عدة أسباب؛
أولا الشعور بالحاجة؛ خصوصا الحاجة إلى السلام و کذلک تعبهم المنتشر بسبب عقود من الحروب المدمرة و الدامية! و من الواضح أنه ما لم يكن هناك مثل هذا الشعور بين المسلمين، فإن التحرك نحو التقارب و التقریب لن يكون له معنى. ثانيا الإرادة الجماعية! فمن الواضح أنه إذا كان هناك شعور بالحاجة و لكن لم توافق عليه الإرادة الجماعية، فلن يكون هناك تغيير في الموقف و سیبقى على مستوى الرغبات و الأمنیات فقط!
السبب الثالث هو التهديد الخارجي و الذي تجلى بشكل الفكر الشيوعي خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، و الذي كان يهم جميع دول أوروبا الغربية. هذا التهديد موجود أيضا اليوم لعالم الإسلامي و ربما أكثر وضوحا! فتهديد الکیان الصهیوني و کذلک الاستعمار الغربي! موجودان و لکن المشكلة بالطبع هي أن معظم الحكومات في العالم الإسلامي اليوم إما مرتبطة مباشرة بالغرب أو على الأقل تخاف منه و هذا بدوره أحد معوقات تقارب المجتمعات الإسلامية.
العامل الرابع هو الحافز الخارجي القسري و المنسق (الضغط الخارجي) من خارج أروبا و الذي نسمیه الولايات المتحدة الأمريكية التي سعت إلى وضع دول أوروبا الغربية تحت سياسة موحدة على الأقل في الدرجة الاولی حیث کان الهاجس الرئیسي للولايات المتحدة من هذه السياسة هو احتواء تهديد الاتحاد السوفيتي! لذلك، و في أقصر وقت ممكن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تم اتباع خطة مارشال و إنشاء حلف الناتو! لأن الولايات المتحدة کانت ترى مصالحها في استيعاب الجهات الفاعلة شبه الفاشلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية!
و أخيرا يعود السبب الخامس إلى نقطة الانطلاق! و هو البدء من المجال الاقتصادي و التقني و الإحتياجات الملموسة و الأقل حساسية! التي لا تتطلب الكثير من الثقة المتبادلة. لا أدعي أن هذا وحده کان کافیا و لكن أود أن أقول إنه حتى لو لعبت المكونات الأربعة السابقة دورا و تم إجراء محاولة التقارب المخطط بناءا على تلك المبادي الأربعة و إهمال العامل الخامس، لما آلت إلی هذه النتائج في نهاية المطاف لإن التقارب و التلاقي المرغوب فيهما سيعتمدان على تهديد مشترك و ليس على مصلحة مشتركة! و نتيجة لذلك، مع انحسار التهديد سيختفي سبب التقارب و بالتالي لا يوجد سبب لبقائه و إستمراره.
على سبيل المثال، لو كانت هذه العوامل الأربعة كافية، لکان الإتحاد الاوروبي فقد فلسفته في الوجود بالنسبة للجهات المكونة (التهديد المشترك) و کذلک فلسفته في الوجود للولايات المتحدة الأمريكية (خطر الشيوعية) في اليوم التالي لانهيار الاتحاد السوفيتي و لکان مصیره الإنهیار مثلما حدث للإتحاد السوفيتي نفسه بینما بدأ العصر الذهبي للإتحاد بعد عام واحد فقط من تفكك الاتحاد السوفيتي (ديسمبر 1991) و في فبراير 1992 بتوقيع معاهدة ماستريخت. مع هذا التفسير، يمكن أيضا دراسة و تحليل الوضع الحالي للعالم الإسلامي.
هناك تهديد كبير جدا یهدد العالم الإسلامي! لكن في الوقت نفسه یفتقر العالم الإسلامي إلى المکونات و العوامل الأربعة الأخری للتقارب أي أنه على الرغم من عقود من الصراع و المشاكل بين الدول الإسلامية حكوماتها، لا يزال هناك عدم الشعور بضرورة التقارب و التقریب و نتيجة لذلك، لاتوجد هناك إرادة شاملة و جادّة لسلوک هذا الطريق بين مختلف اللاعبین! و في نفس الوقت لا يوجد عامل ضغط خارجي للتقارب. على العكس من ذلك، تعمل العوامل الخارجية بشكل أساسي كعامل لتفاقم الخلافات و الإنقسامات و بالتالي لا يمكن أن نأمل بهذا العامل. في نهاية المطاف، تبقی نقطة الإنطلاق حيث تظهر التجارب السابقة و الحالية، مع الأسف، أن العالم الإسلامي يتحرك في الإتجاه الخاطئ و غافل تماما عن التجارب البشرية الناجحة في هذا المجال.
فى أي حال، فإن أي تجربة ناجحة للتقارب و التقريب في منطقتنا يجب أن تحتوي على خمسة عوامل رئيسية على الأقل :
الشعور بالحاجة
الإرادة الجماعية
التهديد الخارجي
نقطة الإنطلاق الصحيحة
المُحفِّز ، عامل الضغط و المنسق الخارجي (العامل الخارجي للتقارب)
على عكس تجربة الأوروبيين، لایمکننا أن نأمل کثیرا بنجاح عامل الضغط الخارجي في العالم الإسلامي! لأن القوى الدولية الكبرى في العالم اليوم لیس من مصلحتها أن تتقارب الدول الإسلامية، بل على العكس من ذلك تشعر جميعها بالتهديد من هذا التقارب و بالتالي فكل منها یشکل داعما و دافعا لسياسات الإنقسام بين الدول الإسلامية.
على أي حال فإن المقارنة بين تجربة الاتحاد الأوروبي و أسيان مع تجارب التقارب في منطقة غرب آسيا تؤكد هذا الادعاء جيدا! على سبيل المثال، في منطقة غرب آسيا و شمال إفريقيا، كانت هناك تجربة «الجمهورية العربية المتحدة» بين مصر و سوريا أو تجربة «إتحاد الجمهوريات العربية» المكونة من مصر و سوريا و ليبيا و التي ضاعت تماما بسبب إنطلاقها من منطلق الأمن و السياسة.
کما أن هناك تجارب ذات عائد منخفض مثل جامعة الدول العربية، المؤتمر الإسلامي، منظمة التعاون الإقتصادي و حتى مجلس التعاون الخليجي و التي رغم بقائها المؤسسي إلا أنها لا يمكن توقع توفیقها! فليس من قبيل المبالغة إذا قلنا أن السبب الرئيسي لتفكك أو عدم كفاءة الائتلافات المذكورة هو تركيز أعضاءها على الأهداف السياسية و الأمنية و الأهم من ذلك، الانطلاق من نفس المجالات التي بطبيعة الحال هي مجال الاختلافات العديدة و العميقة بين المؤسسون و الأعضاء مما تؤدي إلی انعدام الثقة المتبادلة.
من ناحية أخرى، يمكننا أن نذكر بعض التجارب الناجحة داخل إيران و کذلک في العالم الإسلامي! و المثال الأول يعود إلى السلوك الأمني و الاقتصادي للنبي الأعظم (صلى الله عليه و آله) في المدينة المنورة و الحقيقة أن أحد أهم القرارات الإقتصادية و الإجتماعية للنبي (صلی الله علیه و آله) في المدينة هو فصل السوق الإسلامية عن سوق اليهود[xi]! وليس من قبيل المبالغة أن نقول بأن أحد أسباب هذا السلوك هو محاولة نبي الإسلام (صلی الله علیه و آله) لمنع خلق تبعية اقتصادية و تجارية للمسلمين بالنسبة لليهود الذين نقضوا صحیفة المدینة (دستور المدينة)! فمن الواضح أنه بدون الإستغناء عن اليهود، لن يكون من الممكن مواجهة خروقهم للعهود. في الواقع كان الإستغناء شرطا لازما للمواجهة مع اليهود في المدينة المنورة أو أقل الشی الصمود أمام مؤامراتهم.
یمكن ذکر مثال آخر حول الطريقة التي دخل بها الإسلام إلی شرق آسيا من خلال التجارة و التجار لا من خلال الحروب! في الحقیقة، یعود فضل نشر الإسلام في ماليزيا و إندونيسيا و التبت و غيرها، في المقام الأول إلی رجال الأعمال و التجار المسلمين و دور العلاقات الأسرية بينهم و بين الملوك و الشخصيات المحلية المؤثرة في تلک المناطق[xii] بینما في المقابل كان دور بعض الدعاة في نشر الإسلام في المنطقة دورا ثانويا و تبعیا و تتجلى هذه الميزة في اعتناق زعماء سلطنة ملقا [5] في إندونيسيا للإسلام، الذين أسسوا أحد أكبر الأنظمة التجارية في المنطقة خلال فترة حكمهم.
و أخیرا داخل ایران و من أجل إثبات دور تشبیک المعيشة في إحتواء الخلافات المذهبية و تخفيف التوترات، يمكننا اليوم أن نذكر مثالين لمدينتي بانه و تشابهار.
لطالما كانت مدينة بانه في محافظة كردستان إحدى المراكز الرئيسية لصراع القوات الأمنیة مع الإنفصاليين الأكراد خلال ثمانینیات و تسعینیات القرن الماضي و مع ذلك في نهایات التسعینیات، أدی إنشاء دورة اقتصادية غير محلية في هذه المدينة إلى تطور اقتصاد هذه المدينة و المناطق المحيطة بها، بما أثر علی الإستقرار و انخفاض عدم الأمن بشكل كبير!
في هذه الدورة الاقتصادية الجديدة، حدد النظام السياسي للأكراد المحلیین ممرا غير رسمي لدخول و خروج البضائع و الذي بموجبه يمكن لأبناء المنطقة كسب لقمة العيش عن طريق استيراد السلع من كردستان العراق و بيعها بسعر رخيص للسكان المحلیین وکذلک غير المحلیین.
وفقا لهذا النموذج، فإن معيشة السكان المحلیین في هذه المنطقة تشابکت بشكل غير مسبوق بثروة الزبائن من غير السكان المحلیین من مرکز إیران! و حینها أدرك المواطن الكردي السني في هذه المدينة جيدا أن مصدر رزقه مرتبط بدخل و نفقات ذلك الشيعي غير الکردي الناطق باللغة الفارسية الذي يأتي من مرکز إیران إلى هذه المدينة لشراء أجهزة منزلية رخيصة! و على أساس هذا المنطق الاقتصادي أصبح السكان المحلیون أنفسهم جزءا من مشروع الأمن و التقارب مع الدولة المركزية حیث يمكن مقارنة هذا الوضع بفترة الحرب عندما قُتل عدد كبير من المعلمين، المهندسين و الفنيين غير المحلیین بسبب حالة انعدام الأمن في ذلك الوقت و على يد مجموعة من الجماعات الإنفصالية المحلية.
أدى الشعور بالإنتفاع للأكراد المهمشين في أقصى الحدود الغربية لإيران من التبادلات الاقتصادية مع مواطنيهم المركزيين إلى مشاركتهم الكبيرة في عملية الإستقرار و کذلک المشاركة في المواجهات العسكرية الصعبة مع الجماعات التکفیرية و الإنفصالية.
في نموذج مدينة تشابهار الساحلية و الاستقرار الأمني الخاص لهذه المدينة مقارنة بالمناطق الوسطى و الشرقية لمحافظة سيستان و بلوشستان، يمكن تتبع آثار الطبيعة الشبكية لتجارتها مع المركز إلى حد كبير. فعلى الرغم من أن مجموعات معينة من الجماعات السلفية قد تسللت إلى المدينة، إلا أن غالبية النخبة المحلية حاولت منع الإنفصاليين أو الشبكات التكفيرية المسلحة من اختراق المنطقة مقارنة بالمدن الأخرى في المحافظة! لأنهم ما توصلوا إليه هو أن سبل عيشهم مرتبطة بالمركز و يستفيدون من فوائد السياح الذين يدخلون المنطقة كل عام لیشتروا البضائع التي تدخل البلاد من هذه المدينة و هذه المزايا هي التي تخلق و تطور مجالات التعاون و التقارب.
على أي حال، في العقدين الماضيیین، في العلاقات الدولية تم النظر في تأثير التعاون الاقتصادي و التجاري في إدارة الصراع بشكل كبير حیث تم نشر دراسات جيدة في هذا المجال.[xiii]
علی أی حال هناك عدة أسباب للتأكيد على الاقتصاد و التجارة كـ نقطة انطلاق و أساسا للتقریب! أولا يُصنف علم الاقتصاد ضمن الموضوعات ذات عامل الحساسية الأقل! و هو ما يشار إليه بشكل خاص بـ “السياسة السفلی[xiv]” في الأدبيات الواقعية للعلاقات الدولية و يتضمن موضوعات ذات عوامل أقل حساسية مثل الاقتصاد، الصحة، التكنولوجيا و البيئة! بینما في المقابل، هناك مجالات سياسية و أمنية مصنفة ضمن فئة “السياسة العليا[xv]” و لها عوامل ذات حساسية مرتفعة للغاية و الفاعلون السياسيون حساسون بها حیث يربطونها ببقاء حكمهم وهي تشمل قضايا حاسمة مثل الأمن و السياسة الخارجية و الوطنية و المجالات الأيديولوجية و الخطابية ذات الصلة بالسلطة.
بالطبع إذا نظرنا إلى هذه الأمور عن كثب و من منظور فلسفة العلوم الاجتماعية، فقد لا نتمكن من العثور على أي مجالات اقتصادية أو سياسية أو أمنية بحتة لأنها جميعا متشابكة و تتفاعل ديالكتيكیا مع بعضها مما يساعد على إعادة إنتاج أو إعادة بناء بعضها البعض و لکن يمكن أن يكون هذا التقسيم أكثر فائدة من حيث التقريب للذهن.
حسب التقسيم المذکور، فإن في غياب الثقة المتبادلة، أي محاولة للتغيير و التقارب في المجالات الأمنية و الخطابية و السياسية تعتبر مغامرة محكوم عليها بالرفض و عدم الإستثمار “الحقيقي” و “الصادق” بسبب الحساسية العالية. لأن هذا المجال مرتبط مباشرة بالأمن الکوني للسلطة و الکیانات السياسية وعالم السياسة العليا هو نوع من الشرف و الحريم للکیانات.
على العكس من ذلك، فإن مثل هذه الحساسيات في مجال السياسة السفلی هي أقل و بالتالي يمكن أن تكون نقطة انطلاق جيدة لبدء التعاون المشترك. على وجه الخصوص تؤدي الإحتياجات الاقتصادية و التكنولوجية على المدى المتوسط إلى الترابط بين الطرفين و خلق نوع من التكامل بينهما و الذي بدوره سيمهد الطريق لتعاون أعمق و أكثر استراتيجية في المجالات العليا (السياسة العليا).
السبب الثاني هو أن الاقتصاد و التجارة يرتبطان بمجال المحسوسات و الحاجة بها و إدراكها غريزية (أو على الأقل شبه غريزية) فهي مرتبطة بالبعد الحيواني للإنسان. لذلك فإنها من حيث التأثر و الشعور بالحاجة تشمل الجمیع على عكس الاحتياجات الروحية، المعرفية و النظرية التي تشمل دائرة أضيق من البشر، کما أنها ليست معقدة! و فوائدها وثمارها ملموسة لجميع أفراد المجتمع! و فرصة الحصول عليها و إعطائها فورية. و بالنسبة لها لا أحد يسأل غيره عن أفكاره و معتقداته! بل بشكل عام إذا لم تتدخل الإرادة السياسية في مثل هذا المجال (مثل العقوبات أو الدوافع الدينية المحددة) فإن الأفضلية النسبية (الأفضلية المقارنة أو الميزة النسبية)[6] هي التي لها کلمة الفصل أولا و ليست الهوامش السياسية! فعلی سبیل المثال يمكن الإشارة إلی استخدام المنتجات التقنية و التكنولوجية الأمريكية حتى بين الجماعات الدينية و الثورية و خصوم امریکا فی ایران و خارج ایران.
و باختصار يمكن القول بأن الجهات الفاعلة لا تتجاهل عادة احتياجاتها الموضوعية بسبب إتجاهاتهم العقائدیة و التجريدية إلا في حالات خاصة. فمثل هذا الشيء استثنائي للغاية!
من ناحية أخرى، فإن بناء الثقة في المجالين الاقتصادي و التجاري و بشكل عام في مجال السياسة السفلی أسهل بكثير و أسرع. و بشكل عام هناك توجد عديد من مكونات الثقة في جمیع مجالات الحياة الإجتماعية و السياسية. من سياسية و أمنية إلى أيديولوجية و اقتصادية! حتی نظرية الدبلوماسية الدينية ( و حتی في شكلها غير المكتمل) یمکن أن تکون مفيدة فی بناء الثقة! کذلک يمكن للمعاهدات السياسية و الأمنية أن تکون مفيدة! و کذلک الدبلوماسية الإعلامية فعالة للغاية فی تقلیص فتيل الهجمات الإعلامية و. ..
مع ذلك، تجدر الإشارة مرة أخری إلى أن الطريقة الأبسط و الأقل تكلفة و الأكثر فعالية من حيث التكلفة لبناء الثقة المتبادلة هي الإقتصاد و التجارة! فهنا على عكس المجالات الحساسة الأخرى كالسياسة و الأمن و حتى المعتقدات، لا أحد يواجه نوايا و أسرار الطرف الآخر! بل يتعامل مع خدمات أو منتجات ملموسة و قابلة للتقييم و هذا شيء يمكن تحليله و التحقق منه بل يمكن اختباره! فهناك معايير معروفة موجودة أو يمكن إنشاؤها!
إن أهم عنصر في هذا المجال هو الأفضلية النسبية أو الميزة النسبية! بمعنى أكثر عمومية من معناها الإقتصادي المحدد! هذا يعني أنه من ستة اتجاهات ستکون أكثر مزية بالنسبة للمستهلك؛ من منظور السعر النهائي، جودة المنتج أو الخدمة، سرعة التسليم، التسوية المالية، الحصرية و أخيرا خدمات ما بعد البيع! فهذه العناصر الستة فعالة للغاية و حاسمة في اختيار شريك تجاري أو تحدید البائع من قبل المشتري.
بالطبع، هذا لا يعني إنكار التأثير العرضي للعوامل الدينية و الثقافية في المجال الاقتصادي! لكن الحقيقة هي أن مثل هذه التأثيرات خاصة و استثنائية و في النهاية و بالمعنى السائد، فإن الميزة النسبية هي التي تفرض نفسها على إرادة الفاعلین لأنه بشكل عام هناک أقلية من الناس الذين يهتمون بالمعايير الثقافية و العقائدية بصورة واعیة و إرادية في مجال الإقتصاد.
ما یؤكد هذا الادعاء هو الاستخدام الواسع النطاق للمنتجات الغربية من قبل المجتمع الإيراني و حتى فئاته المتدینة أيضا، و کذلک على سبيل المثال يُظهر الاستخدام الواسع النطاق لمبرّدات المياه المصنوعة في إيران من قبل سكان المناطق السنية في العراق، غلبة الميزة الإقتصادية النسبية على المعتقدات العامة للشعب.
طبعا هذا لا يعني إنكار دور العلاقات السياسية في المبادلات الاقتصادية! و بطبيعة الحال، فإن أي توتر في العلاقات السياسية و الأمنية يتجلى بسرعة في مجال التبادلات الاقتصادية و سيؤثر على العلاقات الاقتصادية بين الطرفين و لکن مع ذلك فإن الحقيقة هي أن المزیة النسبية الإقتصادية تتمثل في قدرتها على التغلب على العقبات السياسية و حتى الأمنية حتى في زمن الحروب.
نتيجة لذلك، إذا كان لدى أطراف التقارب (في ظروف غير معادية) الإرادة لتوسيع و تطوير العلاقات من التعاون الطبيعي إلى التعاون الاستراتيجي، فعليهم اختيار الإقتصاد و التجارة كنقطة انطلاق! إضافة على ذلك، فإن عنصر الثقة المتبادلة في عالم السياسة الأدنى هو أقل حساسية منه في السياسة العليا و في الظروف العادية فإن الاقتصاد و التجارة ليست ساحة النوايا.
نظرا لأهمية دور الثقة المتبادلة في إحتواء النزاعات و التوترات فإن المراقبة المستمرة لضمان الترابط الاقتصادي و التجاري و منع تقليصه أو تمزقه ضرورة لا جدال فيها للحفاظ على الاستقرار و الأمن. مثال العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الایرانية و الإمارات العربية المتحدة (كأحد الشركاء التجاريين الثلاثة الأوائل لإيران) هو من هذه الفئة حیث واجه تحدیات كثيرة.
فإذا عدنا قليلا إلى أوائل التسعينيات و قارنا الوضع الحالي بتلك الفترة، حینها يمكننا القول بأن التوترات الحالية بين البلدين لم تصل أبدا إلى المستوى الخطير الحالي حیث إلى جانب جميع المتغيرات المحتملة، لا يمكن تجاهل إنخفاض دور إيران في مجالات السياسة السفلی و حاجة الإمارات إلیها في اقتصادها.
في تلك السنوات، شكلت العلاقات الاقتصادية مع إيران حجما كبيرا جدا من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد (130 مليار دولار في عام 1990) و لکن تدريجيا و مع الاستثمارات الغربية الواسعة لجعل الإمارات العربية المتحدة مركزا للتغيير الاقتصادي و السياسي في منطقة الخليج الفارسي و تطوير اقتصاد النفط و الغاز[xvi] بالإضافة إلى تنويع الاقتصاد على أساس مجالات مثل الإستثمارات العقارية و السياحة، إعادة التصدير، الخدمات المالية و المصرفية و الإعلامية و خدمات الطيران و الموانئ و أخیرا مجالات الإقتصاد العلمي، إنخفض مستوی التجارة بين البلدين إلى أقل من خمس و عشرین بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الإماراتي (407 مليار في 2017).[xvii]
من الواضح أنه مع زيادة الناتج المحلي الإجمالي لدولة الإمارات العربية المتحدة و تراجع حجم مبادلاتها الاقتصادية مع إيران و زيادة إستغناءها الاقتصادي و التجاري عن الجمهورية الإسلامية في المستقبل ستصبح سياسات أبو ظبي و خطابها تجاه ایران أكثر حِدَّة و یجب أن نلاحظ بأن إيران توفر حاليا 10٪ فقط من حاجات الإمارات.
إن غطرسة الإمارات و استثماراتها الحالية حول الأقليات العرقية في إيران فضلاً عن دورها في حرب العملات الواسعة ضد إيران، متجذرة في إستغناءها النسبي عن الجمهورية الإسلامية في مجال السياسة السفلی بسبب تنوع الشركاء الاقتصاديين و المنتجات المتاحة للاقتصادات الإقليمية و العالمية.
مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه العلاقات الاقتصادية القليلة مع ایران أیضا كان لها تأثير نسبي في تقلیص حِدَّة سلوك الإمارات في السنوات القليلة الماضية و لابد من الإعتراف بأن هناك خلافات حقيقية و ملموسة بين السلوك العدواني للسعودية و تقلبات علاقات الإمارات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية! نعم لا يمكن الادعاء بأن العامل الاقتصادي كان العامل المؤثر الوحيد في تشكيل هذا الاختلاف السلوكي فحسب و لكن يمكن الادعاء بأنه كان له تأثير كبير للغاية.
کما أن علاقات اليوم بين إيران و السعودية خير مثال على ذلك! حیث في السنوات الأخيرة تقريبا لم تكن هناك علاقة إيجابية بين الجانبين ما عدا ملف الحج. بالتأكيد الميزة النسبية لكلا الجانبين في المجال الاقتصادي هي نفسها تقريبا : و هي “الطاقة”! و من الواضح إلى أي مدى كان لهذا الإستغناء المتبادل دور فعال في العداء بین الطرفین! و من المفارقات أن تشابه السلع الأساسية التي يمكن للطرفين بيعها أي تصدیر الطاقة كان دائما أحد أسباب تصعيد الصراع و المنافسة بينهما!
من ناحية أخرى، مع مرور الوقت و مع تضاؤل حصتنا من السلة التجارية لدولة الإمارات العربية المتحدة، يجب أن نتوقع سلوكا أكثر عدوانية و جرأة من هذا البلد. و من الممكن اكتشاف و إظهار الإرتباط أو على الأقل التسلسل بين انخفاض حِصَّة جمهورية إيران الإسلامية من السلة التجارية لدولة الإمارات العربية المتحدة من الثمانينيات و التسعينيات حتى اليوم و ظهور لاعبين جدد في العلاقات التجارية لدولة الإمارات العربية المتحدة.
نتيجة لذلك، و من أجل منع نشوء دورة الطغیان، يجب توجيه الجهود نحو هذه الحقيقة بأن تمتلک الأطراف الشيعية و السنية في المقام الأول، أقصی حصة من السلة التجارية لبعضهما و أن لایوافقوا علی حصص أقل، أي أنه لا ينبغي أن يكون من جانب واحد و لا علی مستوی الحد الأدنى! بل یجب أن تکون متبادلة و قصوی! فكلما قل نصيب الطرفين في السلة التجارية بین الجانبین، و كلما زاد الإستغناء من جانب واحد، كانت الأسباب أكثر ملاءمة لتمزق العلاقات وخلق دورة الطغیان.
5. التجانس الهیکلي؛ الشرط الأساسي للنجاح الکامل في التقارب
ربما قيل أن تشبیک المعیشة هو أحد الشروط المسبقة الرئيسية و من الأسباب الضرورية لمنع إنشاء دورة طغیان کما أنه من شروط الإستقرار و بقاء الديناميكيات المُقرِّبة. و لکن هناك نقطة مهمة أخرى يجب ملاحظتها و هي أن التقارب الكامل لن يكون ممكنا بدون التجانس في المجالات السياسية و النظرية.
في الواقع، إن التجانس بين الأنظمة السياسية هو شرط أساسي للنجاح الكامل لمشروع تشابک المعیشة فنجاح تجربة الإتحاد الأوروبي بصورة قصوی تأثر أكثر من أي شيء آخر بهذا التجانس السياسي!
في الدرجة الاولی جميع الأنظمة السياسية في أوروبا الغربية تبنت النموذج الليبرالي-الديمقراطي طوعا أو کرها ثم تمکن نجاح التقارب الاقتصادي و فيما بعد الأمني السياسي فيما بينها.
من الواضح أنه طالما استمرت هذه التناقضات الأساسية في جوهر الأنظمة السياسية الحالية للدول الإسلامية، فلا يمكن أن نتوقع نجاح ملفات التقارب و کذلک المشاریع التقريبية في العالم الإسلامي لأن التجانس یمثل شرطا أساسيا لمثل هذا النجاح! بطبيعة الحال، فإن التجانس، کباقي المفاهيم الأخرى في العلوم الإنسانية، هو مفهوم تشکیکی. نتيجة لذلك، كلما زاد تجانس المتابعین لهذا الحراک، زاد معدل النجاح. و في هذا الصدد يمكن الإشارة إلى العلاقات بين إيران و تركيا، حیث مشاركة البلدین في مكون الديمقراطية خلال العقدين الماضيين و ميل الجانب التركي إلى نسخة من الإسلاموية مَثَّلت أرضية مناسبة للنجاح ضد بعض استراتيجيات الدول العربية الإستبدادية.
بالتأكيد، على الرغم من كل التوترات في العلاقات الإيرانية الترکية في مختلف الملفات و خاصة المواجهة التي استمرت مایقارب عقدا من الزمان في الملف السوري، فإن العلاقات بين الجانبين أقوى بكثير و أكثر استقرارا من علاقاتهما مع بعض الدول العربية في المنطقة و هذه هي دور التجانس المتأصل و الهیکلی في مثل هذه الحالات. فإذا كان الأطراف يكملون احتياجات بعضهم البعض، فيمكن التنبؤ حول علاقات و سلوك الأطراف و إدارتها إلى حد كبير و على هذا الأساس یمکن تقلیص الأزمات في العلاقات بين الطرفين.
و مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن التكامل و توفیر إحتياجات الطرف الآخر کذلک يمكن أن يساعد إلى حد ما في كسر دورة الطغیان أو إبطاء عملية تطورها، و لا يمكن القول علی أن الإفتقار إلى التجانس الجوهري في أعلى مستوياته بالضرورة سیؤدي للتقابل الثابت و المستمر في العلاقات بین الأطراف الغير المتجانسة أو قلیلة التجانس، کلا! هذا ليس هو المقصود! بل في هذه الحالات أيضا، لا بد من إنشاء شبكة التعايش المتبادل مع المؤسسات الرسمية و النشطاء الشعبیین و غير الحكوميين و حتى الجماهير ثم مع مرور الوقت يمكن أن يساعد هذا الأمر في تغيير سلوك النظام السياسي أو حتى تغيير جذوره على المدى الطويل و على الأقل ستکون هذه خطوة إلى الأمام.
تتمثل ميزة تشابک المعيشة بشكل أساسي في أنها يمكن أن تبدأ بالأفراد ثم تتوسع إلى المجموعات أو الشركات و المنظمات غير الحكومية و أخيرا تصل إلی المؤسسات الرسمية، ثم حتی لو حدث هناک تغيير سياسي محتمل یمکنها البقاء و الإستمرار و هذه هي السمة الذاتية للإقتصاد.
و علی أي حال، فإن التأكيد على أهمية التجانس الهيكلي يعني فرض أنه بدون تجانس جوهري لا يمكن أن نتوقع حصول ديناميكيات تقارب في مستویات عالية بل في أفضل حالاته یمکنه تقلیص النزاعات على مدى فترة من الزمن فحسب! لاسیما في حالة تقابل الهوية و الطبيعة، عندما يكون الوضع أسوأ لأن في مثل هذه الحالات یری كل طرف أن أمنه الوجودي في خطر و تهديد من الطرف الآخر.
فنموذج العلاقات بين مشيخات الساحل الجنوبي للخليج الفارسي و الجمهورية الإسلامية من هذا النوع! لأن الأطراف في مجال السياسة العليا غير متجانسین و في تناقض جوهري مع بعضهم. علاوة على ذلك، فإن طبيعة النظام السياسي للجمهورية الإسلامية الإيرانية یتناقض مع هوية الأنظمة السياسية للدول المذكورة ما یمثل تهديدا وجوديا لها. لأنها أنظمة ملكية و إستبدادية، تمیل إلی الغرب و محافظة بینما نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو نظام ديمقراطي، إسلامي، مناهض للغرب و ذات طبیعة ثورية! و هذا هو بالضبط السبب في أن الأنظمة السياسية الحالية في الدول العربية المطلة علی ساحل الخليج الفارسي و خاصة المملكة العربية السعودية و الإمارات العربية المتحدة لا يمكن أن تكون موافقة مع أي نظام له أي من تلک الخصائص الأربعة المذکورة، و بالنتيجة تحاول الإطاحة و تغيير أي نظام یتمتع بواحد من صفات الاربعة: الإسلاموية أو الثورية أو اليسارية أو الديمقراطية.
فالمواجهات الصعبة على مدى العقود الماضية مع الجمهوريين اليمنيين في السبعينيات و مع الثائر اليساري جمال عبد الناصر ثم مع إيران الثوری و الديمقراطيی ثم مع العراق الديمقراطي و کذلک المواجهة مع الإسلاميين من مرسي حتی أردوغان و مع التيار الإسلامي الحاکم في ليبيا و حتى مع قطر الداعم للجماعات الإسلامية السنية ينبع من هذا المنطق.
على أي حال، من أجل تحقيق النجاح الكامل و المستمر في تأسیس شبکة المعیشة (تشبیک المعیشة) يجب على الأطراف اتخاذ خطوتين مهمتين؛ أولا، إنشاء هياكل سياسية متجانسة و ثانيا، إنشاء هياكل اقتصادية مكملة و داعمة یصورة تكمل بعضها البعض بطريقة تلبي الإحتياجات القصوى للطرف الآخر.
بطبيعة الحال، يجب متابعة هذا التشبيك على مستويات أربعة : محلي، وطني، إقليمي و دولي؛ و بعبارة أخرى، ينبغي متابعة الربط الشبكي للمعیشة بصورة متجذرة و یجب أن یصبح كل جانب مکملا للآخر و لا ينبغي السماح لأوضاع أي من الأطراف بالوصول إلى حالة الإستغناء أو الشعور بالإستغناء عن الآخر.
نتیجة هکذا التخطيط و التنفیذ سیؤدي إلی تقريب أو تقارب بنيوي و هیکلی. فالظروف السياسية و الإقتصادية توضع على نحو يجعل الأطراف، شاءت أم أبت، أن تتجه حتما نحو التقارب بین بعضها و هذا هو في الجانب المقابل للتقریب أو للتقارب الإقناعي الذي یحاول تشجيع و إقناع كل فرد و نخبة في المجتمع حول فائدة هذه الديناميكية من خلال تقديم نموذج تجريدي و نظری.
و بطبیعة الحال، تحتاج كل خطوة و كل قسم إلى إنشاء آليات خاصة بهما في مجال التنفیذ و التي هي بطبيعة الحال خارج عن ساحة مناقشاتنا کما أنها خارجة عن معرفتي أیضا.
ملخص و إستنتاج
یبدو أنه وفقا للمنطق القرآني حول “ملازمة الإسغناء و الطغیان” و کذلک حسب التجارب الناجحة في المجتمعات البشرية، يجب أن تُتخذ مرة أخرى نقطة الإنطلاق لمشاريع التقارب و التقریب في مجال السياسة السفلی من خلال خلق الهياكل الاقتصادية، لیعزز الترابط بين الأطراف تدريجيا، تحركا نحو عالم السياسة العليا. يجب الاعتراف بأن أحد الأسباب المهمة للوضع الحالي هو الخطأ في تحديد الأولوية (التي لطالما إنطلقت من ساحة السياسة العليا) و المسار الخاطئ الذي اتبع في عملية التقارب بین الطرفین.
إن أزمة الثقة المتبادلة بين قطبي الهوية في العالم الإسلامي (الشيعة و السنة) تتطلب قبل كل شيء إقامة علاقات قائمة على مشروع تدريجي و خطوات تبدأ من عالم السياسة السفلی لاستكمال الجانبين و في مثل هذه الظروف، سيعتمد تحقق الهوية و المصالح السياسية و الاقتصادية و الأمنية لكل من الجانبين على مستوى منخفض من التعاون الثنائي و التقارب المتبادل. إن التركيز على عالم السياسة السفلی لا يعني أنه لا يمكن أو لا ينبغي لأحد أن يحرز أي تقدم في مجال السياسة العليا من أجل إکتمال التقارب، کلا! بل يجب متابعة السیاسات العلیا بشكل تدريجي بل القصد من ذلك هو إنفاق أكبر قدر من القوة و الطاقة في هذا المجال في فترة زمنية معينة!
نتیجة مثل هذه الجهود هي بطبيعة الحال تشبیک المعیشة! إذا تم تشكيل شبكة العيش، فإن التخلي عنها لیس سهلا حیث خطر استبدالها مرتفع للغاية. اليوم، يعد الإنترنت أحد أبرز النماذج على سبل تشبیک المعیشة في الساحة الدولية حيث يربط عيش العديد من شعوب العالم بشكل مباشر أو غير مباشر بالاقتصاد الأمريكي! وهل يعقل لأحد تخيل بديل لها؟!
نتيجة لذلك، و بعد مرورعقود، لقد حان الوقت للتقريب الهيكلي ليحل محل التقريب الإقناعي! حیث تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد ما يكفي من الوقت و الطاقة لاتباع الأسلوب السابق في الوعظ و الرجاء و من ناحية أخرى، فإن الأساليب القهرية و الآمرة أيضا غير فعالة في شؤون العقیدة، هذا فضلا عن إن لم تكن ضارة و مدمرة في کثیر من الأحيان! بل يجب أن يكون مفهوما بأن التقارب و الإلتقاء قبل أن يتعلق الأمر بـ “الأمر الديني” هو من “الشأن الاجتماعي” و الشؤون الاجتماعية ليست أمرية و قهرية فحسب و لا يمكن أن یتم تنفیذها بالأمر أو عبر الرجاء و التوسل! بل إنها تتطلب إنشاء بنية تحتية و هياكل ذكية و تمهید الأرضیات ثم يتطلب بقاءها تشبیكها مع نمط الحياة الفردية و الاجتماعية للناس.
إن نظرية تشبیک المعیشة ليست نظرية شاملة و مستقلة لتكامل و تقارب الأمة أو الدول الإسلامية و لكنها نظرية و فكرة لبدء حركة أكبر يجب استكمالها عبر خطوات متوازية في المجالات السياسية و الأمنية و الإعتقادية و هذه هي النقطة الوحیدة المناسبة للإنطلاق.
إن تشبیک المعیشة یمکنه أن یعمل مثل لاصق لربط مكونات شبكة التقارب معا فحینها یکون فصلها عن بعضها صعبا جدا؛ لو لم نقل مستحيلا!
كما أن إعطاء الأولوية لتشبیک المعیشة لا يعني تجاهل الإجراءات الضرورية و اللازمة في المجالات الأخرى بما في ذلك السياسات العليا و لكنه يعني إعطاء الأولوية لعنصر التجارة و الاقتصاد و إعطاء وزن أكبر له في فترة زمنية معينة.
في نهاية المطاف، نحن لا نزعم أنه تحقيق تشبیک المعيشة سیؤدي إلی إختفاء المشاکل بشکل کامل، کلا! بل نعتبر أن تحقيق مثل هذه الشبكة يساعد علی أحتواء و إدارة الصراع! و كلما كانت هذه الشبكة أكثر نجاحا و شمولية کلما أدت إلی إرتفاع تكلفة التوترات و الصراعات و بما أن تكاليف هذه التوترات من حيث شبكة المعاش ملموسة تماما و لها علاقة مع الغرائز البشرية فيمكنها تقليل النزاعات بشكل فعال و بصورة أفضل.
يمكننا القول بأن إدراك الطبيعة الكمّية للتكاليف يرتبطان عكسيا بزيادة التوترات و هذا واضح من خلال تجربة تاريخ الحياة البشرية.
خلال العقود الماضية تابعت مشروع التقریب من وجهة نظر دينية و أمنية، لكن في الوضع الحالي هناك حاجة لتغيير جوهري في المنهج النظري و آليات تنفیذ التقريب!
[1] Imperative
[2] Theoretical
[3] nation-State
[4] Association of Southeast Asian Nations (ASEAN)
[5] Malacca Sultanate
[6] Comparative advantage
1 راجع : علی آقانوری، امامان شیعه و وحدت اسلامی، قم: انتشارات دانشگاه ادیان و مذاهب، 1387.
[ii] Keith Crane, Imported oil and U.S. national security, Santa Monica, CA: RAND Infrastructure, Safety and Environment: RAND National Security Research Division, 2009. P. 56.
[iii] جریدة الشرق الاوسط ، الشيخ القرضاوي لـ «الشرق الأوسط»: دول كانت سنية خالصة أصبح فيها شيعة، الخميـس 24 رمضـان 1429 هـ 25 سبتمبر 2008 العدد 10894، علی العنوان التالی:
)https://archive.aawsat.com/details.asp?issueno=10626&article=488218#.XwdwgsAVTDd(
[iv] Andrew H Kydd, Trust and Mistrust in International Relations, Princeton, NJ Princeton University Press, 2005.
[v] حول ماهیة الزیجات السیاسیة راجع : برومند سورنی و دیگران، ازدواجهای سیاسی: از آمدن تیموریان تا ظهور صفویان (علتها و پیامدها)، مجله علمی پژوهشی پژوهش های تاریخی، دوره 10، شماره 3 – شماره پیاپی 39، پاییز 1397، صفحه 125-145.
سید احمدرضا خضری، تاریخ تشیع، قم: پژوهشگاه حوزه و دانشگاه، 1390. صص 27-56.
[vii] محمدحسن ربانی کازاری، گونههای تأکید در قرآن، پژوهشهای قرآنی 1382 شماره 35 و 36.
8 راجع : المیزان في تفسیر القرآن و الأمثل في التفسیر!
[ix]صدرالدين شيرازى، محمد بن ابراهيم، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، بیروت: دار إحياء التراث العربي، 1981م، ج 1، ص 80 و ص 85 و ص 219.
فإن وجود المعلول من حيث هو وجود المعلول هو وجوده بعينه للعلة الفاعلية التامة عندنا و عندهم لكنا نقول بأن لا جهة أخرى للمعلول غير كونه مرتبطا إلى جاعله التام يكون بتلك الجهة موجودا لنفسه لا لجاعله حتى يتغاير الوجودان و يختلف
و يخرج من التقسيم حينئذ الوجود الرابط لعدم استقلاله بالوجود عنده ره و لو مع انضمام متعلقه من الطرفين
فنفس الوجود مرتبط إلى الفاعل و ارتباطه إلى الفاعل مقوم له أي لا يتصور بدونه و إلا لم يكن الوجود هذا الوجود كما أن الوجود الغير المتعلق بشيء هو بنفسه كذلك فلو عرض له التعلق بالغير لم يكن الوجود ذلك الوجود فالافتقار للوجود التعلقي ثابت أبدا حين الحدوث و حين الاستمرار و البقاء جميعا فحاجته في البقاء كحاجته في الحدوث بلا تفاوت
[x] اخطب خوارزم، موفق بن احمد، مقتل الحسین للخوارزمي، قم: أنوار الهدی، الطبعة الثانية1381ش -1423ق، ج 1 ، ص 337.
[xi] إبن شبه أبو زيد عمر بن شبه النميري البصري، تاريخ المدينة المنورة (أخبار المدينة النبوية)، بیروت: دار الفكر، 1989. الجزء الاول حققه فهيم محمد شلتوت ، ج1، ص 304-306.
[xii] Sir Thomas Walker Arnold, The Spread of Islam in the World: A History of Peaceful Preaching, Goodword Books, 2001. p.p. 293 & 388.
[xiii] For example: Edward D Mansfield & Brian M Pollins, Economic Interdependence and International Conflict: New Perspectives on an Enduring Debate. Ann Arbor: University of Michigan Press, 2009.
[xiv] Low politics
[xv] High Politics
[xvi] الإمارات العربية المتحدة هي رابع منتج للبترول في الشرق الأوسط و شمال أفریقیا و الخامسة عالمیا
[xvii]International Monetary Fund (IMF), World Economic Outlook Database, April 2017, (http://yon.ir/wNK6d)