انعقدت في التاسع من مارس ندوة “اربعين سنوات بعد الثورة: إيران والعالم الإسلامي” في مركز CIGA في اسطنبول برئاسة د. سامي العريان. شارك مجموعة من الباحثين من مركز مرصاد للدراسات في هذه الندوة وعرضوا بحوثهم بهذه المناسبة. العنوان المشير اليه في الفوق هو محاضرة حميد عظيمي التي القاها في الندوة. اليكم نص الورقة:
بسم الله الرحمن الرحیم
بعد اربعین سنوات من انطلاق الثورة الإسلامية الإيرانية، هناك تساؤلات كثيرة حول مدى توفيق النموذج الإيراني في الوصول الى غاياته. اليوم نرى أن هذا النموذج الذي يتبنى على التغيير في المستوى العالمي يعانى في داخله من تعارضات شديدة بين القوى الإجتماعية ذات الرؤى المختلفة باتجاه الثورة وغایاتها. في الحقيقة لا يمكن فهم السياسات الإيرانية في خارجه الا بالنظرة العميقة الى ديناميات الداخلية المعقدة في طهران.
يمكن أن نعتبر الظهور الأخير للتعارض بين القوى الإجتماعية الإيرانية في الانتخابات الرئاسية السابقة. مع أن الجميع كانوا يتوقعون بأن هذه الإنتخابات سيصوغ نوع من الإتفاق بين الإصلاحيين والأصوليين بعد تساعد حدة الصراع بين النخب السياسية في فترة الرئاسية لأحمدي نجاد ولكن سرعان ما تشدد الصراع وبدأ الممثلون للتيارين لتوجيه إتهامات عنيفة للطرف الآخر. لم يحدث هذه الأمر الا بأن حقيقة الاستقطاب السياسي في المشهد الإيراني له عمق إجتماعي اكثر من أن يكون صراع محدود في دائرة النخبة السياسية وهذا الإستقطاب يعكس أثره في الأحزاب كالممثلين لقواعدهم الشعبية.
كيف يمكن أن نفهم طبيعة هذه الصراع الإجتماعي في إيران وما هي علاقة هذا الصراع بموضوع سياسات إيران تجاه العالم الإسلامي؟ هنا ستكون لدي نوع من الموافقة مع ما يدعي وائل حلاق بالنسبة الى إمكانية الدولة الإسلامية الحديثة. بمعنى أن الإستقطاب في المجتمع الإيراني لا ينشاء الا بسبب المحاولة الفاشلة للجمع بين الجمهورية والإسلامية. ليس يعني الفشل في الجمع بين الديمقراطية والإسلام و لا اكتساب الدعم الشعبي بل الفشل هو في صياغة الهوية الإجتماعية التي بتكوينها يمكن بناء الدولة-الملة بمعناها الحديثة.
فهناك اتجاهان لا يمكن الجمع بينهما. اتجاه ينوي صياغة الهوية من العناصر العرفي وإتجاه آخر يحاول لتشكيل هذه الهوية من العناصر القدسي. يمكن نعبر عن هذه الثنائية بلغة خلدونية في جدلية العصبية والفضيلة أو في ادبيات فردينان تونيس الألماني بالجدلية بين جمنشافت وجسلشافت أو كاميونيتي وسوسايتي.
بخلاف ما يمكن أن يخطر بالبال أنا أريد أن أدعي أن الإتجاه الأول يعني صياغة الهوية العرفية في إيران لاينحصر الى النزعة اليبرالية والإصلاحية بل التيار الأصولي وقع في نفس الفخ منذ بداية التسعينات. هذا يعني خلافا لما يتصور، طوال هذا العقود الثلاثة كان المجتمع والنخب الإيراني بشقيه الأصولي والإصلاحي في نوع من العزلة عن محيطه الإسلامي ولم يكن هناك مشروع جاد لصياغة الهوية القدسية التي بطبيعتها لا يمكن أن يحدد بالحدود الجغرافي ولا يخضع للتموضع. هناك بدأ المحاولة لتشكيل هوية استسلم أمام الحدود التعاقدي الدولي وفي نفس الوقت حاول دون جدوى أن يصبغها بصبغة دينية. هذا التناقض كان التخلص منه مستحيلة.
أولا أتعرض الى أدلة هذه الفرضية (يعني فقد مشروع صناعة هوية عابرة عن الحدود عند الأصوليين فضلا عن الإصلاحيين) ثم أقوم بتحلیل اسبابها. بالتحليل الخطابي لأدبيات قيادة وقاعدة الأصوليين يرى الباحث مدى التركيز على اللغة الفارسية مثلا كعنصر مقوم للوطنية. أو مثال آخر يمثل في ما تم مأسسته في السنوات الأخيرة بإسم مركز النموذج الاسلامية والإيرانية للتقدم. حتى الصورة المتطرفة لهذه النزعة رأيناه عند الرئيس الأصولي د. احمدي نجاد ورئيس مكتبه د. مشائي الذان كانا يدافعا عن ما يسمونه بالمدرسة الإيرانية وأثارا جدل واسع بسبب صراحة هذا التعبير في فك الإسلامية من الإيرانية. في الحقيقة حتى في سنين بين الغزو الأمريكي للعراق الى الربيع العربي مع تساعد الشدة والسرعة في الأحداث بالمنطقة المحيطة بالأيران كان هناك أنشطة الطلابية والمدنية المتوجهة الى العالم الإسلامي ضعيف جدا. كذلك في الساحة البحثية والأكاديمية نحن نواجه ضعفا شديدا كما وكيفا في دراسات العالم الإسلامي وأعتقد ذلك لايزال موجودة حتى الان.
نحن نرى أن الفعاليات المتوجهة الى خارج الحدود الإيراني فى هذه الفترة اصبحت مقتصرة على أنظمة حكومية ذات طابع أمني بشكل كامل أو جزئي، ولن يبدل الى خطاب أو نشاط منتشر بين أوساط المجتمع الإيراني والنخب السياسية. في رؤية المجتمع الثوري خصوصا، بناء نموذج ناجح وإستثنائي في إيران في الأبعاد الإقتصادية والدينية والعسكرية وغيره سيؤدي بشكل تلقائي الى بسط التأثير الإيراني الى خارج حدوده ولذلك أصبح التركيز على الداخل أولوية لهذا المجتمع.
السؤال هنا أنه كيف يمكن تطبيق هذه النظرية على ظاهرة الدور الأيراني الكثيف في البلاد الإسلامية من أندونيزيا الى نيجريا؟ فی رأيي معظم هذه النشاطات إما أسست في العقد الأول بعد الثورة وإما كان رد فعل أكثر من أن يكون فعل ويمكن أن نصنفها في زمرة السياسات المحافظة. يعني مثلا بالنسبة الى لبنان يرجع بسط النفوذ الإيراني الى أواسط الثمانيات ولم يقع بعدها تحول استراتيجي فيها. والمثیر للإهتمام أن بعد تأسيس حزب الله في لبنان تبدل الحزب الى قوة نشعر أنه مع كونه تابعا بالكامل للإيران ولكن فاعليته تجاوز عن حدود لبنان وأمتد الى من بوسنيا الى مصر ومن السودان الى الخليج والحزب مع صغره بالنسبة الى الكيان الأم يعني إيران كان يمكن أن نقايس بين حجم نشاطاتهما في العالم الاسلامي. حتى ليس خطاء لو ندعى أن كثيرا ما ينظر إيران لفهم الواقع العربي من نافذة حزب الله ويتأثر به جدا. يعني مثلا ملف علاقاتنا مع حماس بعد قضية مخيم مرج الزهور وكذلك علاقاتنا مع أنصارالله في اليمن وعلاقاتنا بالنظام السوري وكثير من الملفات العربية نرى فيه حجم أثر حزب الله في صياغة الرؤية للقيادة الإيرانية وذلك ليس الا مؤشرا لقلة الإهتمام بالعالم العربي.
هذا ما يتعلق بالشامات. بالنسبة الى افغانستان تحالفنا مع مسعود ورباني وتعاوننا مع حكمتيار كان يرجع كذالك الى الثمانيات ولم تضخم الحضور الإيراني هناك الا بعد قضية استشهاد تسع دبلوماسيين الإيرانيين في مزار شريف ونمو الخطر من جهة تواجد المباشر للولايات المتحدة، ولا يخفى أن ذلك كان رد فعل ايضا. مثل ذلك حدث في عراق. لم يتجه إيران الى العراق الا بعد إشعاره بالتهديد من جهة الحضور المباشر لعدوه الإستراتيجي يعني أمريكا في حدوده الغربي. وحتى بعد ذلك، مد النفوذ الإيراني في العراق لايحدث الا بسبب فراغ القوة بعد سقوط صدام وكان ذلك أمر طبيعي ولم يكن منبعثا عن إرادة وإهتمام يناسب حجم هذه الملف.
هذا من جهة الأدلة. ولكن من جهة الأسباب أعتقد أن السبب الأول لهذه العزلة كانت اللغة. يعني تعلمون أن الغة الفارسية هي من أدنى اللغات من جهة عدة نسمة المتكلمين بها وهي حوالي مئة ميليون شخص وكذلك إنتشاره محدود بثلاث دول. يمكن نقيس ذلك مع مئتين ميليون متكلم بالغة التركية المنتشرين في القفقاز والآسيا الوسطى وأربع مئة ملايين المتكلمون بالغة العربية منتشرة بين اكثر من عشرين دولة.
السبب الأخر هو العزل الأمني للإيران. نعلم أنه منذ سنين يواجه الإيرانين أنواع من الحذر للسفر الى الدول الخليجية ومصر واردن والأراضي الفلسطينية وباكستان وبعض دول أخرى. هذا قد أدى الى إنقطاع نخبوي بين إيران ونقاط الكثافة للنخبة الإسلامية.
بالتالى نرى أن العالم الإسلامي غاب عن الحياة الإيرانية والمشهد السياسي فيها بدرجة كبيرة. أعتقد أن هذه العزلة عن المحيط والتركيز الشديد على الداخل لبناء “جزيرة” فاضلة کما ورد في كلمات الشهيد محمدباقر الصدر، هو مشروع جرب فشله والإستقطاب الموجود في المجتمع الإيراني يرجع الى حد كبير الى ممارسة هذه السياسة الاعتزالية. لأن المجتمعات يتأثر بعضهم ببعض ویتعسر أن تجرد مجموعة بشرية عن محيطها وتفرض عليها التمشية على أصعب المسارات من جهة تطبيق الشريعة والمقاومة السياسية أمام القوى الكبرى وكذلك المقاومة الثقافية أمام السيطرة الحضارية للغرب. فملخصا يجب علينا أن نفتح جسورا واسعة على العالم الإسلامي ونجد شركاء لذلك المهام. عذرا على الإطالة. أشكر الجميع.