سم الله الرحمن الرحیم
ما في المملكة من جديد! منذ 27 سنة ولم يحدث أي شيء في المملكة السعودية يمكن اعتبار السعودية نفسها مصدره وسببه! حقيقة ستظهر جليا من خلال مراجعة لفترة الهجوم الصدامي على الكويت ومسلسل الأحداث اللاحقة التي نسفت العلاقة بين التيار الإسلامي والدولة السعودية. ذلك أن الإسلاميين كانوا أول فئة أثبتت عدم وجود شيء في العالم الخارجي اسمه الشعب السعودي. إذا كان عبد العزيز بن سعود قد أراد للوهابية أن تكون عامل صناعة شعب من سكان شبه الجزيرة، فإن نجله فيصل أحال إلى أيديولوجيا الإخوان المسلمين مهمة إضفاء الهوية على هذا الشعب. عندما انهار الاتحاد السوفيتي، أدرك حكام نجد تدريجياً أن الحاجة إلى الإخوان قد انتهت. وكانت هذه هي النتيجة التي تم التوصل إليها بشأن الوهابية أيضاً منذ زمن الملك الأب. الذين أتيحت لهم خلال هذه الفترة فرصة التجوال الكافي في الدول الغربية اكتشفوا أن السعودية التي أحبّوها شيء مختلف تماما عن آمال شيوخ الصحوة والإخوان. وعندما اكتشف الملك فهد هذه الحقيقة كان الوقت قد فات إلى حدّ ما، وكانت أبراج دوبي وجزرها الصناعية الباهرة قد بدأت بالنماء والظهور. أضف إلى ذلك أن وهابية عبد العزيز وإخوانية فيصل لم تكونا قد ضربتا في الرياض جذورهما بحيث يمكن التخلص منهما بسهولة. فلا تزال السعودية إلى اليوم تخوض صراعاً حذراً للتخلي عن هاتين النزعتين وصناعة شعبها المنشود، ولكن يبدو أنها سقطت في فخ جديد.
إلى حدّ عام واحد بعد قيام الدولة السلمانية في سنة 2011 م، لو كان تحدث متحدث عن خطر النفوذ الإماراتي لما أخذ كلامه مأخذ الجد، ولكن عندما أعلن المزروعي بثقة قبل يوم من الإعلان الرسمي وقبل الجميع في تغريدة له على تويتر أن محمد بن سلمان هو ملك السعودية القادم، تساءل كثيرون: وهل تتخذ قرارات الرياض في أبي ظبي؟! لقد كان هذا الاستفهام مهيناً للغاية بالنسبة للسعوديين الذين کانوا يعتقدون أنهم يحركون العالم السنّي كالخاتم في أصابعهم، وخصوصاً اذا تذكروا أنهم، إلى وقت قصير، كانوا يطرحون ما يشبه هذا التساؤل بخصوص دور الدوحة في السعودية أيضاً. إننا نتحدث عن بلدين لا يتجاوز حاصل جمع سكانهما المحليين سُبْعَ سكان مدينة الرياض! بلدان يتقرر مصير السعودية اليوم في إطار اللعبة بينهما.
إننا نتحدث عن بلدين لا يتجاوز حاصل جمع سكانهما المحليين سُبْعَ سكان مدينة الرياض! بلدان يتقرر مصير السعودية اليوم في إطار اللعبة بينهما. |
ولكن لماذا وصل الأمر بالسعودية إلى هذا المستوى؟ يعود كل شيء تقريباً إلى عدم كفاءة أحفاد سعود، عدم الكفاءة الذي جعل المواطنين السعوديين مهما عدّدوا من أسبابٍ للتفاخر بوطنهم وجدوا ما هو خير منه في الجانب الآخر من حدودهم. بلغة أبسط: إذا كنتم تريدون الحضارة الإسلامية فالدوحة، وإذا كنتم تنشدون التنمية فدوبي، وإذا كنتم تطمحون إلى الشريعة فالرقة، ستجدون في أحد الثلاثة آمالكم بشكل أفضل من أيّ مكان في السعودية. وبالطبع فهذا الكلام لا يعني أن الدولة القومية لا تتكوّن من دون وجود مزايا وامتيازات ونقاط قوة، بيد أن الدول الفاقدة للمزايا تسمح لشعوبها عن طريق العملية الديمقراطية، أن يختبروا سبلا جديدة لتطوير البلد من دون الوقوع في دوامة الاضطرابات والثورات. الديمقراطية شيء تفتقده السعودية، وللكويتيين ملامح باهتة منه، غير أن القطريين والإماراتيين لا يحتاجونه أساساً، لأنهم يمتلكون مزايا كافية من دون أن يمتلكوا شعوباً ينفقون عليها هذه المزايا. هذه هي خارطة التجاذبات السياسية في الساحل الجنوبي من الخليج الفارسي. دولتان بأيديولوجية صانعة للشعوب ولكن من دون شعوب، وشعب ممزّق بشبه دولة من دون أيديولوجيا يعيش تحت رحمة نظام ريعي ليس إلّا.
في مثل هذا الواقع، ليس من الغريب أن تراود مخيلة آل نهيان وآل ثاني أحلام كبيرة لأرض الحرمين، فيطمحون إلى تعويض «عدم شعوبهم» بـ «عدم الحكومة» عند الحجازيين! والواقع أن هاتين الحكومتين راحتا تعبّئان منذ سنين شبكة واسعة من النخبة للتغلغل في الطيف السعودي العام والسيطرة عليه.
شبكة قطر
لهذه الشبكة سابقة أطول بالمقارنة إلى المنافس الإماراتي، ويعود ماضيها إلى حرب الخليج الفارسي. بعد المواقف المتشددة للإخوان المسلمين حيال قضية الاستعانة بالقوات الأمريكية لمواجهة صدام، وقع هذا التيار في عراك شديد مع الدولة السعودية. وقد أدى هذا العراك إلى قطع أهم مصدر مالي للإخوان المسلمين، أي خزينة سلمان ونايف وعبد الله وباقي الأمراء المتنفذين الموالين للإخوان. فمن هنا توجه الإخوان إلى الأمير القطري الذي کان قد تولى الحكم تواً. أبدى حمد كل ألوان المساعدة والتعاون مع جميع أطياف الإخوان، بما في ذلك الإخوان السعوديين الذين باتوا غرباء في أوطانهم. العلاقات مع محمد سرور والشبكات المتطرفة التابعة له بدأت منذ ذلك الحين؛ الشبكات التي کانت هي نويات تموين القاعدة بالطاقات البشرية. ويقال إن وزير الداخلية عبد الله بن خالد آل ثاني هو الذي تولى مهمة الاتصالات المباشرة بالقاعدة، وهو الشخص الذي قد أدرج اسمه الآن في قائمة الإرهاب التي أعلنتها دول الحصار.
وهكذا نكون في الدوحة أمام ثلاثة أنواع من التنظيمات الفكرية ـ الإعلامية توزعت بأنحاء مختلفة بين اليساريين والإسلاميين. |
لقد كانت شبكة أنصار محمد سرور وتلاميذه حقاً من أكثر التيارات السلفية متاعب وإيذاء لآل سعود. وقد استطاع أحد فروع هذه الشبكة بقيادة الحوالي، والعمر، وبدعم معنوي من عبد الرحمن البراك، وبن جبرين، أن يستقطب طيفاً واسعاً من السلفيين التقليديين في شبه الجريرة العربية ويعبّأهم ضد نظام الحكم. يمكن رصد جوانب من الهيكلية التنظيمية لهذا الطيف من خلال التواقيع المدرجة أسفل بياناته المعارضة، وقد اكتسب لاحقاً بنية تنظيمية أكثر رصانة عبر التعاون مع العالم الكويتي عبد الرحمن عبد الخالق (مرشد السلفية الحزبية) وأسس «رابطة العلماء المسلمين» ليجمع فيها أصحاب فکرته. ويمكن اعتبار الموقع الإلكتروني الشعبي «المسلم» الوسيلة الإعلامية الناطقة باسم هذه الحلقة ووكر ناشطيها وكتّابها السعوديين. في الداخل السعودي، لم تكن الدعم القطري الواسع لسرور أو لناصر العمر بالشيء الذي يمكن إخفاءه عن رجال الحکم القلقين، خصوصاً وأن ميزة حلقة العمر هو ضجيجها العالي الذي من الطبيعي أن يقلص شيئا من مديات نشاطها في الداخل السعودي.
وفي مقابل حلقة العمر كان لأتباع سرور الآخرين شيء أكثر من الذكاء والشطارة فاستطاعوا أن يمارسوا نشاطهم بخفاء وهدوء أكثر، الأمر الذي قلل من مضايقات الدولة عليهم. ولهذا السبب ربما أمكن اعتبار هذا الجناح من السروريين ذا أهمية أكبر من جناح العمر. يقف على رأس هذه الحلقة أحمد الصويان، ويمكن ملاحظة جانب مهم من أعضائه الآخرين بين العاملين في مجلة البيان. كما ينبغي ملاحظة جانب أكبر منه في شبكة هائلة من حلقات التحفيظ والمدارس والجامعات. وقد تولى مهمة إفشاء جزء كبير من المؤسسات الخاضعة لنفوذ السروريين أحد الشخصيات شبه الاستخبارية المنسوبة للجامية، وهو «سلامة العتيبي».
ولم تكن هذه الشبكة الإخوانية الوحيدة التي شملها القطريون برعايتهم ودعمهم. إن النسيج الديني العامّي للقطريين کان على قرب من السلفية النجدية، وهذا ما جعل السروريين يعوّلون على الطبقات الأدنى في هرم السلطة في الدوحة أكثر. وفي المقابل كان رأس الهرم عند آل ثاني متأثراً تمام التأثر بالإسلام الإخواني الجديد، المعروف بمنظّره الابرز الشيخ القرضاوي، وكان القرضاويون أيضا قد صادوا رجالهم من الوسط السعودي. لقد كان أبرز صيد وقع في شراك القرضاوي على أرض السعودية سلمان العودة الذي غدا هو وخالد العجيمي الأعضاء السعوديين الوحيدين المنخرطين في «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» النادي العلمائي للقرضاوي. وقد أطلق العودة موقع «الإسلام اليوم» مستلهماً التجربة الناجحة لموقع «إسلام أونلاين» عند القرضاوي، وقد سجّل الموقع شعبية وإقبالاً كبيرين بين السعوديين. وقد كانت هذه المجموعة لمدة من الزمن على اتصال، إلى أن تبلورت أخيراً ومع بدء حركة الصحوة الإسلامية (الربيع العربي) في إطار «ملتقى النهضة». وفي ظل التوجيه والإرشاد الاستراتيجي لمشروع النهضة من قبل شخصيات سعودي الأصل مثل جاسم سلطان، ومحمد الأحمري، تجلى للنظام الحاكم في السعودية أكثر فأكثر خطر هذا التنظيم كغرفة عمليات للثورة في هذا البلد. وكان يبدو أنهم بانتهاجهم منحى أكثر انفتاحاً استطاعوا أيضاً استقطاب تعاطف بعض الشخصيات الشيعية والليبراليين السعوديين مثل توفيق السيف وخالد الدخيل.
أما وقد جرى ذكر الليبراليين الآن فلا يمكن المرور من دون الإشارة إلى عزمي بشارة، الرجل الذي عندما يتحدث السعوديون عن عداء القطريين يكرّرون اسمه أكثر من حمد أو تميم. ليس عزمي بشارة إسلامياً، والواقع إنه ليس مسلماً في الأساس، بل هو مسيحي فلسطيني أخرج بتهمة علاقاته السرية مع حزب الله، فجاء إلى قطر واستطاع أن يتبوّأ موقع ريادة التيار القومي العربي. التيار الذي استطاع بفضل منحاه النقدي لتبعية الحكومات العربية واستبدادها أن يصل إلى مراحل متطورة من التعاون مع الإسلاميين في ظل الرعاية القطرية.
وهكذا نكون في الدوحة أمام ثلاثة أنواع من التنظيمات الفكرية ـ الإعلامية توزعت بأنحاء مختلفة بين يساريين وإسلاميين. جانب منها يدار من قبل التيار اليساري الليبرالي ويقف على رأسه عزمي بشارة. وأبرز مؤسسات هذا التيار «المركز العربي للأبحاث»، و«الشبكة العربية للنشر»، وموقع «العربي الجديد». جانب آخر من التراست الفكري ـ الإعلامي لقطر قد تم بناؤه بتعاون من الطرفين. ونجم هذا الجانب هي قناة الجزيرة – ومركز دراساتها الرصين – التي لا حاجة للتفصيل عن دورها في صناعة نقمة التحالف السعودي على القطريين. أما المعسكر الثالث والذي يدار بنحو أكثر نقاوة من قبل الإسلاميين الإخوانيين الجدد مثل خنفر، والزعاترة، والأحمري، فيمتد بظله على مؤسسات مثل «منتدى العلاقات العربية»، و«منتدى الشرق»، وموقع «عربي 21». لهذا التراست العظيم قدرة لا تصدق على توجيه الرأي العام في العالم العربي ضد نظام المنطقة، فهي مبغوضة بشدة من قبل الحكومات العربية المحافظة.
ولنعد إلى الداخل السعودي لنجد إن الإخوان الجدد التابعين للعودة، وکذلک السروريين، ليسوا الأطياف المتجذرة الوحيدة داخل الهيكل السعودي العام. إنه يملأ الهوة بينهما تنظيمٌ يمكن اعتباره الامتداد الأصيل والحقيقي لمنظمة الإخوان المسلمين المركزية وأفكارها الكلاسيكية. هنا نكون أمام منظمة حقيقية متكاملة الأرکان تعدّ أوسع التنظيمات غير الحكومية داخل السعودية، وقد نهجت نهجاً انطوائياً سرياً جعل من الصعب تسرّب شيء عن وضعها الداخلي. جماعة الإخوان المسلمين «البنائية»، محتذية حذو المنظمة الأمّ، تبدي أيضا مرونة عالية في التعامل مع الحكومة المحلية. الشواهد التي يقدمها المعارضون الجاميون لهذا الطيف، تدل على أن دفة هذه المنظمة بيد عبد الله التركي الرئيس السابق لرابطة العالم الإسلامي، وسعود الفنيسان، وعدة شيوخ آخرين. إذا وثقنا بهذه الشواهد يجب التصديق بأن هذه الوجوه استطاعت بعد كل الأزمات أن تواصل علاقاتها وتعاملها الإيجابي مع النظام السعودي، ولا تترك آثاراً واضحة لعلاقاتها مع قطر.
فنحن أمام منظمة حقيقية متكاملة الأرکان تعدّ أوسع التنظيمات غير الحكومية داخل السعودية، وقد نهجت نهجاً انطوائياً سرياً جعل من الصعب تسرّب شيء عن وضعها الداخلي. |
الحالة الأخيرة التي ينبغي الإشارة لها في خصوص الشبكة المرتبطة بقطر سلسلة حسابات مجهولة الهوية في الشبكات الافتراضية، أضحت قناة لنشر كل ما لا تستطيع المؤسسات الإعلامية الرسمية نشره. ولا مراء في أن أبرز هذه الحالات تتمثل في شخص استطاع باسمه المستعار «مجتهد» أن يتحول إلى أحد أهم قنوات تعرف الرأي العام على ما يدور خلف كواليس العائلة السعودية. لقد كانت فكرة مجتهد ناجحة إلى درجة أن أصحاب حسابات مستعارة أخرى مثل «تركي الشهلوب»، و«معالي الريبراري»، أو «سلامة العتيبي» نفسه الذي تحدثنا عنه، بکل اتجاهاتهم المختلفة، حاولوا استلهام نموذجه لغرض التأثير. وقد نشر في الآونة الأخيرة خبر يفيد أن حساب مجتهد يدار من قبل السفارة القطرية في صنعاء.
شبكة الإمارات
نصل الآن إلى لاعب جديد. الإماراتيون المحاصرون بين أبراجهم وموانئهم وأرصفتهم النفطية تنبّهوا إلى أهمية «السلطة الناعمة» متأخرين بعض الشيء. لقد صحا الإماراتيون على أنفسهم عندما شاهدوا القطريين، على الرغم من سرعتهم الأقل في التنمية، يمتلكون قدرة أكبر بكثير منهم في التأثير على الأجواء المحيطة بهم. في حين لم يكن من المهم لأحد في الدوحة ما الذي يفكر به الإماراتيون، فقد كان العدو المخيف والقوي المدعوم من قبل قطر ناشطاً بشدة في أبي ظبي. لقد وصل الأمر بالإخوان الإماراتيين حتى إلى إطلاق خلايا شبه نظامية لتهديد نظام الحكم. وعندما شاهدوا أن جيرانهم السعوديين أيضاً ليسوا بمنأىً عن خطر السقوط أمسكوا هم بزمام المبادرة.
في سنة 2000 تم تدشين جانب من النشاطات بافتتاح مدينة دبي للإعلام. وقد نشأ في هذه المدينة عملاقان إعلاميان سعوديان هما إم. بي. سي، وروتانا، وکان معناه أنه تمّ توفير أهم أدوات لبرلة شبه الجزيرة العربية بما أنفقه ثلاثة من أصحاب المليارات من العائلة السعودية هم الوليد بن طلال، وعبد العزيز بن فهد، ووليد آل إبراهيم، وأيضاً بتوفير الإمارات للبنى التحتية اللازمة.
شيئاً فشيئاً بدأت الإمارات تحتل مكان لندن وبيروت بالنسبة لليبراليين اليمينيين العرب، الليبراليين الذين طمحوا إلى إحداث الانفتاح في الأجواء العربية ولكن بمساعدة السلطات الحاكمة وليس عبر تحدي هذه السلطات. وقد كان كثير من الأمراء السعوديين يطمحون إلى هذا الشيء أيضاً، ومنهم هؤلاء الذين عددناهم. وهناك آخرون مثل خالد بن سلطان، وعثمان العمير، الذين أدارا «الحياة» و«إيلاف» على الترتيب كانوا قد جرّبوا مدى صعوبة العمل في السعودية. فقد كانت السعودية على كل حال دولة ذات شعب متقطع الأوصال، وکان لا بد لها من مراعاة مطاليب الطيف الديني أيضا. لذلك فإن معظم وسائل الإعلام الليبرالية على الرغم من أنها تدار من قبل شخصيات رفيعة المستوى في العائلة السعودية إلّا أنه لم يكن بالمقدور تأسيسها داخل السعودية. من جهة أخرى، لم يكن صناعة الشبكات النخبوية وإحداث التغييرات الاجتماعية في الطيف الخليجي بالأمر الذي يمكن القيام به من لندن أو بيروت، لذا كانت الإمارات أفضل خيار، فهي دولة تعد نموذجاً جذاباً للتنمية وليس لها شعب يذكر حتى تتحمل الحكومة مسؤوليات حياله.
في إطار هذه الذهنيات ظهر إلى النور في دوبي تدريجياً كتّاب عرب ضالعون، وقد كان تركي الدخيل بلا شك نجم هذا الجيل. لقد بدأ الدخيل مشواره مع العربية (التي كانت بدورها من فروع إم. بي. سي) وسرعان ما تقدم في مهنته إلى درجة أنهم أحالوا إدارة قناة العربية إليه، وأسّس إلى جانب ذلك مركزاً بحثياً باسم «المسبار» تعهدت أبو ظبي بنفقاته. مهمة المسبار دراسة الحركات الإسلامية، وبكلمة أدق: نقد الحركات الإسلامية. وكان هذا نفس الشيء الذي تريده الإمارات وقد أنفقت عليه الأموال بسخاء إلى أن بلغ الأمر بالمسبار إلى مستوى يستطيع معه حالياً وفي إطار موضوع دراساته منافسة مراكز عالمية مثل بروكينز وكارنجي، من دون أن يكون له أي منافس في العالم الإسلامي. عبر استعانته بمفكرين سعوديين متفتحين مثل منصور النقيدان ومشاري الذايدي الذين كانا راديكاليين في وقت ما فقد استطاع مسبار تسريب الشكوك إلى قلوب الإسلاميين السعوديين بنجاح. لیست النقود موجهة للإسلاميين فقط، بل إن البنية الرسمية للدين في السعودية لم تسلم هي الأخرى
لقد انصبت مخالفات المألوف هذه على تحدي الأرثوذكسية السلفية الخليجية على کل صعيد، وحتى لو استدعى الأمر الاقتراب في هذه العملية من الشيعة. |
من نقد الإماراتيين. لذلك كثيراً ما يحدث أن يحمل المسؤولون السعوديون نقود المسبار على أنفسهم.
ولا يخلو من الفائدة أن نشير هنا إلى أن مديات دعم الإمارات للتيارات المستنيرة العربية لا تقتصر أبداً على شبه الجزيرة العربية، فقد استطاعت الإمارات التواصل مع شبكة عالمية من المثقفين العرب عن طريق دعم مؤسسات مثل «مؤمنون بلا حدود».
ولنسلط الأضواء على أم بي سي وروتانا أكثر، شبكتان كان لهما بشهادة مدرائهما غير العلنية نجاح هائل في لبرلة الثقافة العامة في المجتمع السعودي. ففي حين افتقرت الكتل الكبيرة النازعة للجناح الليبرالي، وعلى الضدّ من الإسلاميين، إلى منظمات مدنية وتنظيمات شعبية قوية، بدا وجود مثل هذه الوسائل إلى جانب الشبكات الاجتماعية حالة حيوية على سبيل التعبئة للمستقبل. ولم تكتفي الشبکتان باجتذاب الجمهور الليبرالي فقط، بل سارتا على نهج الجزيرة في إطلاق حالات جذابة من مخالفة المألوف. لقد انصبت المحاولة في مخالفة المألوف هذه على تحدي الأرثوذكسية السلفية الخليجية على کل صعيد، وحتى لو استدعى الأمر الاقتراب في هذه العملية من الشيعة. ويمكن أن نلاحظ أول علامات هذا المنحى من خلال تعيين شخصية شيعية غامضة هو «نجاح محمد علي» على رأس كادر العربية.
ولم تكن هذه المفاجأة الوحيدة التي أطلت بها العربية على المجتمع الخليجي، فقد فجّرت هذه القناة في الآونة الأخيرة عدة عبوات إعلامية في هذه المجتمع كانت إحداها فيلماً وثائقياً باسم «حكاية حسن» حول شخصية الأمين العام لحزب الله لبنان، عرض له ملامح إيجابية بدرجة لم يمكن إطاقته من قبل الجمهور. كانت القنبلة الأخرى لقاءً مع فؤاد الهاشم هاجم فيه ابن تيمية، وابن باز، وابن عثيمين، بكل صراحة. كما يجب أن لا ننسى إبداعات إم. بي. سي في هذه الأيام من خلال مسلسل «غرابيب سود» الذي استنبط كثير من مشاهديه أنه يستهدف أهل السنة قبل داعش. أضف إلى ذلك أن روتانا أجرت قبل أيام مقابلة مسهبة ومثيرة للجدل والضجيج مع عدنان إبراهيم. الشبه المستبصر الشهير اعتبر في هذا اللقاء، الى جانب إعادة طرح قرائاته النقدية لليمين الديني عند أهل السنة، أن الإمارات بلد نموذجي في إقامة العدالة.
إن الجناح الإماراتي وبکل وضوح هائم بكل تيار ينقد الثقافة الوهابية السائدة في السعودية، حتى لو صاغ هذا التيار الناقد آراءه ونقوده من منظار شيعي. عندما يعيد مسؤول رسمي مثل وزير الخارجية الإماراتي نشر تغريدة تويتر حادة اللهجة لشخصية شيعية مثيرة للحساسية مثل ابن فرحان يعتبر فيها المجتمع السعودي ثمرة لتربية الثقافة الجنائزية، فهذا معناه إعلان الحرب على هذا المجتمع. وكنموذ آخر ينبغي الإلماح إلى مقالة سالم بن حميد رئيس مركز مزماة الإماراتي للدراسات والبحوث وأحد المقربين من بن زايد، والتي يشير فيها إلى مساعي السعودية لتصدير الفكر السلفي معتبراً الفكر السعودي الوهابي «من أقبح وأنكر الأفكار على وجه الأرض». وهنا تطول لائحة الليبراليين القريبين من الإمارات مثل تركي الحمد، ومحمد آل الشيخ، وحمد المزروعي، وناصر القصبي، الذين يوجّهون بين الفينة والفينة نقوداً لاذعة مهينة للمجتمع الديني في العربية السعودية وينوّهون في مقابل ذلك بازدهار الإمارات، كما تطول قائمة خطواتهم والأعمال التي قاموا بها في هذا المضمار.
قد كان للإماراتيين أفكار أخرى أيضا، فقد كانوا يعلمون أنهم من أجل مواجهة الإخوان والسلفيين لا يمكنهم التوكّؤ على العلمانيين فقط، إذ من دون الأرصدة والدعامات الدينية سيعود اكتساب الشعوب في الشرق الأوسط والتأثير فيها أشبه بالمزحة. إذن لمعالجة هذه القضية اختاروا كما هم دائماً أكثر الحلول طموحاً. فحاولوا مصادرة الإسلام التقليدي، أي الأزهر، والمالكيين، والصوفية. ويلوح أن هذه العملية أصبحت أسهل مع تولي عبد الفتاح السيسي المدين بشدة لكرم الإمارات للسلطة في مصر. وهكذا ظهر إلى النور «مجلس حكماء المسلمين» ليتحدى بإسناد من أبي ظبي وبمشاركة شخصيات من الوزن الثقيل نظير أحمد الطيب، وعبد الله بن بيه، وإبراهيم الحسيني، مرجعية «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» المنتسب للقرضاوي.
أضف إلى ذلك أن الإمارات كلفت عالماً صوفياً ذا شعبية واسعة هو علي الجفري بتأسيس مؤسسة «طابة». وتعتبر طابة غرفة عمليات لدراسة الأفكار وصناعتها مقابل السلفية والإخوان، وقد أبدت مؤخرا قدراتها من خلال شنّ حرب حقيقية على هذين التيارين عبر إقامة مؤتمر غروزني. كما استطاعت الإمارات في الآونة الأخيرة استقطاب شيوخ مشهورين كثيرين مثل وسيم يوسف إلى لعبتها.
باستخدام كل هذه الأدوات والآليات تمكّنت الإمارات الآن من جرّ اللعبة إلى مراحلها الساخنة. الشبكة الإنسانية التي بذلت الإمارات جهوداً جبارة طوال خمسة عشر عاماً لصناعتها راحت تجني اليوم ثمارها على أعتاب تولي محمد بن سلمان زمام السلطة في السعودية. إنها الشبكة التي بدأت الآن تتقدم بسهولة في التضاعيف السياسية والأمنية بعد أن وفرت البنى التحتية الاجتماعية لذلك.
لقد أثبت بن زايد في اليمن على أفضل نحو أن السعودية مدينة بكل قوّتها الميدانية للمحور الإخواني ـ السلفي، وعندما يحين الدور للعلمانيين فسوف يعمل الجميع مع الإمارات بسهولة أكبر. |
الشواهد على أن الإمارات اكتسبت دوراً مفتاحياً في تغيير السلطة في الرياض تعود إلى فترة طويلة قبل إفشاء إيميلات العتيبي أو تغريدة المزروعي على تويتر. والطريف في الأمر أن محمد بن سلمان تعاون في قضية اليمن بحرارة مع الإصلاح الإخواني، وأصلح في سورية علاقته مع الإخوان وجيش الفتح، بل وفتح ذراعيه في فترة من الزمن للقرضاوي، ومع ذلك كان أنصار قطر يحذرون منذ البداية من أنه على الرغم من رغبة الأمريكان في بن نايف إلّا أن سلطان أبي ظبي يتوق إلى محمد بن سلمان ويحمل في رأسه أحلاماً ومخططات مثيرة. وسرعان ما كشف النقاب، من خلال تنفيذ مشاريع ترفيهية، عن خطة لحسم الموقف نهائياً من الوهابية. وازداد الوضع إثارة عندما رفع النقاب عن نشاطات الفدائي الفلسطيني السابق «محمد دحلان» في هذا المشروع ليتضح بذلك جانب من المستوى الأمني لمشروع بن زايد ـ بن سلمان.
دحلان مقاول مشروع سياسي جديد وضعه بن زايد لمصر والأراضي المحتلة، مقاول تقدم في مهمّاته ومشاريعه بخبث ودهاء، وتلاحظ اليوم بصماته في كل مكان. واليوم حين نقرأ إيميلات العتيبي لا يساورنا شك في أن لإسرائيل والمحافظين الجدد الذين أعيد لهم بفضل كوشنر تأشيرات دخولهم للبيت الأبيض، لهم موقعهم في هذه اللعبة. من غير الممكن أن يكون كوشنر والعتيبي قد رتّبا للقاء البعيد عن الأضواء بين بن زايد وترامب في برجه بسبب إشاعات صفراء. تقارب العلاقات بين ترامب والسيسي، والمفاوضات الأخيرة بين السيسي وحماس، والانقلاب الذي شهدته تركيا، وتصاعد النزاع مع قطر الآن، يجب تحليلها كلها في هذا الإطار.
يستشف أن الإمارات أقنعت بن سلمان بأن عليه خوض غمار لعبة ذات درجة عالية من المجازفة من أجل الحيلولة دون خسارته الكاملة المحتملة مقابل جناح بن نايف. على بن سلمان في هذا القمار أن يحسم علاقة السعودية مع حليفين سابقين، وأن يفرض العزلة على المنظمات الوهابية والتنظيمات الإخوانية فيجعل المناخ السياسي في بلدان الخليج الفارسي الجنوبية متجانساً موحداً، حتى يستقطب دعم أمريكا وإسرائيل والإمارات مقابل بن نايف.
يعلم آل نهيان جيداً أنه بتحطيم الأواصر بين السعودية والأطياف الإخوانية ـ السلفية سوف يتعرض استقرار الحكومة السعودية وأرصدتها الاجتماعية لأضرار، ويمكن ردم هذه الثغرة من قبل الإمارات والقوى الاجتماعية التابعة لها. وقد بدأ الإماراتيون جني منافعهم من هذه اللعبة حتي قبل إثمار صفقتهم مع بن سلمان. لقد أثبت بن زايد في اليمن على أفضل نحو أن السعودية مدينة بكل قوّتها الميدانية للمحور الإخواني ـ السلفي، وعندما يحين الدور لعلمانيين مثل الجنوبيين أو عبد الله صالح، فسوف يعمل الجميع مع الإمارات بسهولة أكبر. ولهذا، في حين تورط التحالف السعودي ـ الإخواني في تعز، أخذ التحالف الجنوبي ـ الإماراتي القوي بيد عدن إلى الاستقرار التام وأوحى لها بفكرة الحكم الذاتي المستقل عن بيدق السعودية منصور هادي. وحتى في صنعاء أيضاً لم يعد عبد الله صالح يفكر بغير عقد صفقات مع أبي ظبي لا مع الرياض.
وعندما زالت المجاملات جانباً أصبح الملك حكماً بدل أن يكون منافساً، وصار جزءاً من الحل بدل أن يكون مشكلة، الحل الذي كان كل طرف ينضّجه في رأسه من أجل تقييد الطرف الآخر. |
عامل التوازن غير ذي وزن
اتضح لدينا أن الحكومة السعودية لا تمثل أيّاً من التيارين الاجتماعيين السائدين في السعودية، وأن حليفها الحقيقي الوحيد هي الوهابية التقليدية. في ضوء أن الوهابية التقليدية أضحت اليوم بالنسبة للعائلة السعودية الحاكمة تياراً ضعيفاً عاجزاً كبير التكاليف، فقد بات استقرار الحكومة السعودية إلى حد كبير رهن موازنتها بين ذلكم التيارين اللذين كلما عملا على تحدي الدولة أدركا أن مشكلتهم الرئيسية ليست الدولة بل الطرف المقابل.
المرة الأولى التي تفطن فيها هذان إلى البون الفاصل بينهما كان في بداية التسعينيات. كلا الجناحين طمح إلى تقييد الملكية بقيود دستور جديد وإنشاء مؤسسات ديمقراطية. ولكن من ناحية أخرى يطالب الليبراليين صراحة بحريات للمواطنين، وحقوق متساوية لمعتنقي جميع الأديان والمذاهب، وتقييد تأثير القراءة الدينية السائدة في المجالات العامة. هذا في حين يطالب الإسلاميون بتعزيز مكانة المؤسسات الدينية والإشراف على تطبيق الشريعة في السياسات الداخلية والخارجية، والاهتمام بالتأهيل الديني للمسؤولين، وإنهاء التبعية العسكرية والسياسية للغرب.
وعندما زالت المجاملات جانباً أصبح الملك حكماً بدل أن يكون منافساً، وصار جزءاً من الحل بدل أن يكون مشكلة، الحل الذي كان كل طرف ينضّجه في رأسه من أجل تقييد الطرف الآخر. لم تكشف التجاذبات والصراعات إلّا عن أن النظام الحاكم مستقر في مكانه الصحيح، فهو ليس ليبرالياً بالكامل ولا ملتزماً بالشريعة بشكل كامل. هذا هو الشيء الذي يعمل حالياً على بقاء الحكومة السعودية وتبعاً لها الجهاز الوهابي بوصفه حليفها الذاتي الوحيد؛ الحكومة التي استطاعت أن تمارس بشكل جيد دورها في التعادل والموازنة، وإحباط مفعول القوى السياسية المعارضة لها عن طريق ضرب بعضها بالبعض الآخر.
بيد أن الحدث المهم الذي يقع الآن هو أن ولي العهد الجديد يعمل بشكل طوعي على إفساد الموازنة التي تعتبر سبب بقائه. بانزلاق بن سلمان سريعاً نحو الجناح الإماراتي سيقتنع الإسلاميون أكثر فأكثر أن الحكومة ليست حامية للوضع القائم بل هي الدينامو المحرك نحو تغييره لصالح الليبراليين.
إذا استطاع هذان أن يخطفا باتفاق بينهما دور عامل التوازن الذي تمارسه الدولة السعودية، فسوف يكتسب تيار المعارضة قدرات تعبوية غير مسبوقة في السعودية. |
حتى السلفيون التقليديون يشعرون بالقلق الشديد مع أن شغلهم الشاغل كان تغييرات ثقافية وشكلية داخل السعودية دون اهتمام کبير للقضايا السياسية. بنفس الدرجة التي أصبحت فيها سياسات الدولة حيال قطر وحماس وترامب مثيرة للحساسية عند الإسلاميين، فإن برامج الترفيه وزعزعة الأعراف والقيم غير المسبوقة على الصعد الاجتماعية تكاد تنهي صبر الوهابية وضبطها لأعصابها. في مثل هذه الظروف ليس من المستبعد، كما حصل في اعتراضات عقد التسعينيات، أن تعاني الوهابية الرسمية في المفترقات الحساسة من بعض التردد في دعم الحكومة في صراعها مع الإسلاميين.
وعليه، يقف بن سلمان في الوقت الراهن على مفترق طريقين خطير. فإما أن يستمر في تعزيز تحالفه مع الإمارات بنفس الوتيرة والسرعة ويستسلم لإدراج نفسه داخل النظام الذي توجّهه أبو ظبي، أو يعمل على تعديل سياساته في المحطة الزمنية التي يتصور فيها أن سلطته قد تكرّست ولم تعد هناك أخطار تهددها، ويعيد نظام الحكم إلى موقعه المتعالي على الأجنحة والتيارات. في ضوء أن أيدي الجناح القطري ليست مغلولة في خلق التحديات لابن سلمان، وتلوح حالات تردد عالية في دعم ترامب واليمينيين الأوربيين للمملكة العربية، يبدو أن من الصعب بالنسبة لابن سلمان الوصول إلى نقطة استقرار. سيكون من الصعب أن يتفاءل الإسلاميون بالتزام السلطة بدورها في الموازنة والتعادل. والسلطة بدورها وفي ضوء ظروفها الاقتصادية العصيبة لن تستطيع تسكين التوترات المستقبلية بجرعات من سياساتها التوزيعية.
في كلا الحالين، ينبغي خلال الأمد المتوسط مشاهدة «مكسر عصا» الحكومة السعودية في العلاقات بين قطر والإمارات، البلدين اللذين لهما دور أكبر من السلطة السعودية نفسها في توجيه التيارات الاجتماعية داخل المملكة العربية. إذا استطاع هذان أن يخطفا باتفاق بينهما دور عامل التوازن الذي تمارسه الدولة السعودية، فسوف يكتسب تيار المعارضة قدرات تعبوية غير مسبوقة في السعودية. بوسع التيارين المعارضين، في صورة وجود ضمانة لعدم تجاوز أي منهما لحدوده المتفق عليها، بوسعهما التعاون فيما بينهما على تكريس مطاليب مشتركة مثل تحديد سلطة الملك وإنشاء مؤسسات ديمقراطية ومواجهة فساد العائلة الحاكمة.
أيّاً كان السيناريو الذي اختاره بن سلمان، فإنه في حال اتفاق المعارضة على إطلاق حراك مشترك، لن يكون بوسعه المقاومة لفترة طويلة، سواء كان مردّ ضعفه هذا إلى تبعيته للشبكة الإماراتية المهيمنة أو إلى عجزه عن اللعب ثانية في دور عامل التوازن أو موزِّع الموارد. ولا شك في أن الكنسرسيوم الإعلامي القطري ـ الإماراتي القوي سيكون هو الآخر ظاهرة غير مسبوقة يمكنها منح المعارضة قدرات تعبوية تحشييدية غير متوقعة. من جانب آخر، إذا بادرت السعودية إلى ممارسة العنف بشكل واسع لقمع الاعتراضات فإن ذلك قد يفضي إلى حمامات دم أفظع بكثير من تلك التي ارتكبتها القاعدة في شبه الجزيرة خلال 2003 م. ولربما كان ولي العهد الجديد على علم بأن بن نايف لم ينس بعدُ حادث الانتحاري الذي استطاع الوصول إلى بُعدِ خطوتين منه!
ايران والعلاقات القطرية ـ الإماراتية
يمكن للسيناريوهات المحتملة المرسومة، كما هو الحال دائماً، أن تنهار بخطوة واحدة من اللاعب الإيراني. تخال بلدان الساحل الجنوبي من الخليج الفارسي أنها من دون مساعدة أخيها السعودي الأكبر لن تكون بمأمن من خطر أن تبتلعها إيران. لقد كانت إيران دائماً السبب الأهم لاقتراب هذه البلدان بعضها من بعض. للوهلة الأولى قد لا تبدو هذه السيناريوهات في طهران جذابة إلى الحد الذي تؤدي إلى تغيير سياساتها في التعاطي مع الساحل الجنوبي للخليج الفارسي، إلّا أن التدقيق في جملة من النقاط سيدل على كمْ يمكن أن تكون هذه الاحتمالات المستقبلية مهمة بالنسبة لنا.
1 ـ النقطة الأولى هي إضعاف مكانة الوهابية في هذه السيناريوهات. الكثيرون وبتأثير من الظروف الراديكالية للطائفية في السنوات الأخيرة، لا يستطيعون التمييز بين محاربة الوهابية التقليدية للتشيع وبين معاداة التيار الإسلامي. هذا خطأ استراتيجي. تعاطف هذين التيارين ضد التشيع في الظروف السياسية الراهنة ليس له أبدا امتداداته في البنى التحتية الفكرية لهم. مناهضة التشيع مرتبط ارتباطاً وثيقاً بكل تراث الوهابية، وسيبقى التشيع دوماً العدو «الهويتي» الأبرز لهذا التيار. وفي المقابل فإن التراث الفكري للإسلاميين مع ما فيه من أرصدة كثيرة للنشاط ضد التشيع في مواقع اللزوم، بيد أنه ينطوي في الوقت نفسه على خلفيات كافية للفصل في هذه الخصومات ومعالجتها. إن انتهاء احتكار الوهابية للهيمنة على البنية الرسمية للدين في السعودية يعتبر بلا مراء تطوراً مهماً في المقاربات الطائفية لهذه الدولة حيال إيران.
السياسة المحافظة ستكون أسوء الخيارات في الظروف التي نسير فيها بكل وضوح نحو مواجهة شديدة مع السعودية. |
2 ـ القضية الخلافية غير المحسومة التي تنتصب أمامنا هي إيجابية أو سلبية قيام اتحاد خليجي. فلقد عوّلنا دوماً على الخلافات داخل مجلس التعاون. يخشى كثيرون داخل إيران من أن أي حلّ لهذه الخلافات قد يزيد من متاعبنا الجنوبية. إلا أن السياسة المحافظة ستكون أسوء الخيارات في الظروف التي نسير فيها بكل وضوح نحو مواجهة شديدة مع السعودية. لقد قرر مجلس التعاون أن ينهي تعدد الأصوات في داخله حتى لو كان الثمن الدخول في توتر داخلي حاد. إن العمل على تنميط مجلس التعاون أمر لا مفرّ منه، سواء كان هذا التنميط لصالح القطب الإماراتي ـ السعودي ضد قطر، أو لصالح القطب الإماراتي ـ القطري ضد السعودية. لقد كانت إيران لحد الآن مرتابة ـ وهي على حق ـ في قدرات الدوحة على تغيير مسار بلدان الجزيرة العربية، ومترددة في وضع كل خياراتها في سلة آل ثاني غير المأمونة، لذلك أبعدت هذا الملف عن سلّم أولوياتها. لقد بقي صناع القرار منذ مستهل الصحوة الإسلامية (الربيع العربي) في حالة ارتياب ومناقشات دائمة حول الانتخاب بين الإسلاميين والليبراليين، الأمر الذي أبقاهم يراوحون في مكانهم ومنعهم من اتخاذ القرارات والمبادرة. بمقدور التطورات الحالية أن تمثل منطلقاً لتجاوز هذه الحالة والوصول إلى حل يخلو من مخاطر الانتخاب، حل يعترف بممثل مناسب لكلا القوّتين السياسيتين ـ الاجتماعيتين المتجذرتين في المنطقة، ويركّز بذلك الجهود، على الأقل، على تجفيف أحد المصادر الأصيلة للعداء ضد إيران في المنطقة.
3 ـ أنْ نعلم أن لأمريكا والكيان الصهيوني دورهما المهم في التطورات موضوع البحث فهذا لا يعني أن نعتبر هذه اللعبة في ضررنا بغض النظر عن نتائجها. ينبغي الاعتراف أن جزءاً كبيراً من مجتمع شبه الجزيرة العربية له نظرة صداقة لأمريكا، ويعتبر النزاع العسكري مع إسرائيل مما لا طائل من ورائه. هذا ليس بالموضوع الذي نستطيع تغييره خلال الأمد القصير. إن الخليجيين سواء كانوا بقيادة السعودية، أو بقيادة الإمارات، أو حتى بقيادة قطر، لن ينضمّوا لمحور المقاومة. ومع ذلك فإن قيام نظام خليجي أكثر شعبية، واحتواء إحدى الدكتاتوريات التي يرتهن بقاؤها بالتبعية لأمريكا، يمكنه أن يمهّد الأرضية لإعادة إنتاج اللعبة الفوز ـ فوز بين إيران وبلدان الساحل الجنوبي من الخليج الفارسي.